نزهةٌ على جسر تمّوز

نزهةٌ على جسر تمّوز

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان السوري قتيبة عمو

تمشّى على مهله في رِواق الطّابّق الثّاني من المستشفى غير عابئٍ بصوت القذائف المتساقطة على بعد بضعة كيلومترات من المبنى الواقع عند ملتقى بيروت وضواحيها.

كان يحمل في يده حقيبته الصّغيرة التي تحتوي على حاجياته الأساسيّة لقضاء ليلة المناوبة هذه، ولكنّه كان جهّز في سيّارته حقيبة أخرى بثيابٍ إضافية في حال لم يستطع العودة إلى منزله في الغد، سواء لتعذّر المغادرة أو في حال عدم استطاعة الطبيب المناوب غدًا الحضور.

كان وطنه قد دخل ثانيةً في دوّامة الزّمن المفتوح على كل الاحتمالات، كان قد مضى عليه يومان وهو يحاول تأمين البنزين لسيّارته بما سيسمح له بالذّهاب إلى المستشفى والعودة منها في يوم المناوبة المسند إليه.

لم يكن ذلك بالسّهل في ظلّ الحصار الذي فرضه العدوّ على شواطئ بيروت وفضائها، بعد أن كان قد شرع بقصف الجسور بين المناطق كافّة، في تجسيد لهمجيّة شيطانيّة لفكر يعتاش على قطع الصّلات جغرافيًّا وتاريخيًّا وإنسانيًّا. كان العدو يقطع وأهل الوطن يزيدون اللّحمة والتّواصل.

آلاف العائلات النّازحة من الجنوب وجدت لها أبواباً مفتوحة ومساكن جاهزة في كلّ المدن والقرى على كافّة انتماءاتها ومعتقداتها. ومقابل كل جسرٍ دمّره العدو كان هناك جسر آخر يشيّد بين الإخوة.

غرفة المناوبة في الطّابق الثّاني ليست آمنة أبدًا، بل إنَّها مواجهةٌ تماما لضاحية بيروت التّي تتلقّى الضّربات، الشّباك الزّجاجيّ كان مصدر خطرٍ مماثلٍ لخطر القذائف المتساقطة بغزارة على أرض الوطن.

لم يأبه كثيرًا للأمر، فعندما ينقضُّ عليك عدوٌّ من خارج حدود أرضك، فإنَّ الحماية الأساسيَّة تأتيك من الأعلى. كان يفترض بغرفته أن تكون مجاورةً لقسم العناية لحديثي الولادة، لكي يسرع عند حدوث طارئٍ، ولكنّ القسم كان قد تمَّ إخلاؤه بسبب موقعه غير الآمن وتمّ نقل الحاضنات إلى غرفة العمليات تحت الأرض، كانت كلّ الطًّوابق المكشوفة من المستشفى خاليةً من المرضى، لا يجوبها إلّا من هم مثله لا يؤمنون بالوقاية من المصادفات.

سارع إلى تبديل ثيابه وارتداء بزّة المناوبة وهو يفكر في تسارع تطوّر الأحداث في الأيّام الأخيرة. منذ أسبوع بالتّحديد كان يفترض به أن يكون عند أقدام هيكل بعلبك يمتّع نظره وروحه برائعة الرحبانيين “صح النوم” التي كان يفترض فيها ان تكون بمثابة عوده روح

القلعة إليها بعد غياب سنين.

استطاع الحضور لفيروز سابقا في صلاة الجمعة العظيمة، أمَّا في عمل فنِّيٍّ على المسرح، فذلك لم يسنح له حتّى تلك اللحظة. كان من أوائل الذي ابتاعوا البطاقات بعد صدور الإعلان مباشرةً. إن حضور مسرحية أصلية لفيروز بإدائها وصوتها، كان بمثابة الحصول على قطعة أثريَّةٍ في زمن نضبت فيه منابع الفكر والثَّقافة من المحيط إلى الخليج، ولكن ذلك الحلم لم يكتمل، وقبل الموعد بيومٍ، إنقضّ الشِّرير على أرض لبنان الطاهرة.

صوت السَّلام المتصاعد من ذلك الهيكل المهيب الذي يحكي قصة صمود البشرية أمام عنجهيَّة السِّنين لا شكَّ أنه يقضُّ سكون مضاجع الدِّماء.

نزل إلى الطّابق الثَّاني تحت الأرض مستخدماً السَّلالم، فاستخدام المصاعد والقصف مستمر خارجاً كان مخاطرة جميعهم بغنًى عنها. كان الجرّاحون يتابعون العمل في غرفة العمليَّات التّي لازالت شغَّالةً منذ مساء الأمس. كان الجراحون يقومون بعمليَّاتهم بشكل متتابعٍ وحثيثٍ وبصورةٍ مستمرةٍ. فالمرض لا ينتظر توقُّف العدوان.

نادته الممرّضة من الغرفة الجانبيَّة:

  • نحن هنا يا دكتور

 كان قد تمّ نقل كل حديثي الولادة إلى غرفة الإنعاش المجهَّزة للمراقبة بعد الاستيقاظ من بنج العمليَّات. تركوا فيها زاوية لسرير المرضى الذّين خضعوا للعمليَّات ورصفوا في المساحة الباقية حاضنات الأطفال الإلكترونيَّة، وفي كلٍّ منها طفلٌ يستعدُّ للخروج إلى معارك الحياة.

كان الأطفال ينامون بسكون. إثنان منهما يتناولان الحليب عبر الأنبوب وثلاثةٌ آخرون موصولون إلى أجهزة التّنفس الصّناعيّ، بينما كان الطّفل الرّابع يقبع بهدوءٍ تحت الضّوء الأزرق في مسعى لخفض نسبة الاصفرار في الدم، كانت الغرفة مزدحمةً تذكِّره بأيام الملاجئ والحرب. لم تكن تلك ذكريات حقبة مفردة فى حياته كما يفترض المنطق في حياة البشر العاديّين. فذكريات هذه الملاجئ تعاوده من اجتياح عام٨٢، كما فى تهجير ال ٨٥ وحروب التّسعين. تكرّرت تلك الصّور بضبابيَّة بينما كان يقوم على مهل بسحب الدم من الشّريان الوريد في يد الطفل اليمنى ليقوم بقياس نسبة الأوكسجين. تحسّس على مهلٍ نبض الطّفل الخديج تحت رأس سبَّابته. كان إصبعه يغطّي كل يد الطّفل الصّغير. لم يكن وزنه يفوق الكيلوغرام والنّصف. لم يكن يرى الشّريان بعينيه، كان عليه أن يشعر به ليسحب منه الدّم.

تتالت ذكريات الملجأ في مخيِّلته، الغرفة المعتمة وضوء مصباح الغاز يظلّل الحاضرين الذين يتكدّسون على كراسٍ متجاورة وينصتون إلى القذائف المتساقطة حولهم. كانوا يلعبون الورق ويضحكون، يلقون النِّكات وبعضهم ينصت إلى الراديو بانتظار أخبار مكتب التحرير. كان المشهد مماثلاً لمشهد هذه الغرفة. وحدها حاضنات الأطفال لم تكن موجودةً في تلك الذِّكريات العتيقة.

أحس بالنّبض المتسارع تحت أصابعه. دقَّات قلب ذاك الطِّفل تقارب المئة والخمسين، أخذ نفسًا عميقًا وغرز الإبرة عميقا تحت الجلد، وما أن بدأ الدَّم الأحمر القاني يتصاعد داخل أنبوب البلاستيك حتَّى تنفَّس الصُّعداء، كان عليه أن يكرّر الفحص عند طفلين آخرين. غسل يديه وعقَّمهما تحت نظرات الممرّضة التي تراقبه بعين ساهرة، فهي اعتادت على الأطبّاء الحديثين الذين ينسون تطبيق قواعد الوقاية في غرفة العناية.

إرتجَّت الغرفة بينما كان يتحسَّس نبض الطِّفل الثَّاني. حمد ربه انه لم يكن قد غرز الإبرة بعد.

  • –       “هيدي شكلها قريبة”، قالت الممرضة وهي تناوله الإبرة المعقمة
  • –       “جميعها قريبة”، أجابها وهو يتحسّس النّبض من جديد

تكرَّرت الإرتجاجات بشكل متسارع وسارع أحد الأطباء في الغرفة المجاورة إلى رفع صوت المذياع ليسمع أين وقعت الضربات.

  • –       “بسيطة ليس هناك من أضرار” قال وهو يعيد خفض بصوت المذياع

أتمَّ بهدوء جولته على باقي المرضى وقام بتحديث وصفات الدواء على الملفات.

  • –       “سأكون في غرفة الطابق الثاني إذا احتجتم إليّ” قالها للممرضة وهو يناولها الملفات
  • –       “بك شيء يا دكتور! في الطابق الثاني والدنيا مشتعلة في الخارج؟” قالت الممرّضة دهِشةً وفي صوتها بعض فى القلق.
  • –       “سأكون بخير”

صعد إلى غرفته مستخدمًا السّلالم كما نزل. كانت القنابل تتساقط على بيروت كآلاف الشُّهب النَّاريَّة المضيئة وتترافق مع أصوات الانفجارات في ذلك المربّع الصّغير.

نظر إلى شبَّاك الألمنيوم العريض الذي يواجه ساحة المعركة. كان من الزجاج العازل المزدوج، لا شك انه ثقيل الوزن. تحامل على نفسه وجاهد لكي ينزعٍ دفّتيّ النّافذة بكل ما أوتي من قوة، فنجح بعد عدَّة محاولات، ووضع اللوحين جانب الحائط بعد جهد ليس بالقليل، فملأ النسيم العليل أرجاء الغرفة. قام بعدها بوضع السّرير في الزاوية الآمنة غير المواجهة لساحة الميدان.. كانت الأضواء لا زالت تظلل ليل بيروت.

انتهى موجز الأخبار للتوّ وتصاعد من الرّاديو صوت فيروز الذي لا تسكته مفرقعات لطخات على خطّ التّاريخ: “أنتِ ملجانا، وعليكِ رجانا”

إستلقى على السرير ورفع عينيه إلى أيقونة السّيّدة العذراء فوق باب الغرفة. عيدها بعد بضعة أيام. ترك الرّاديو مفتوحًا وصوت صلاة فيروز يعلو فوق وقع القذائف. أغمض عينيه وخلد إلى النّوم مطمئنًّا وهو يعلم أنّها لن تترك عيدها يمرّ دون شعاع من الأمل وربما مع إشراقة انتصار.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.