النملة الهائلة

النملة الهائلة

صبحي السلماني

اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي

واحدة، اثنان، ثلاث، ست، وحتى لو وصل العدد الى عشر، ماذا يعني؟

لم اكترث لزيادة العدد ولم أشعر بضيق، على العكس، اعتبرت أن وجود تلك المخلوقات الوافدة، وهي تدب في غرفتي على البلاط، حالة صحية ووسيلة لابأس بها لازجاء الوقت.. كانت واحدة، وكان من الممكن أن تبقى واحدة لو كان تقديري الذهني سليما فيما يتعلق بقدراتها الجسدية.

على غير هدى، حين وجدتها كمن يبحث عن ضالته تدور في غرفتي ولا تلوي على شيء، رق لها قلبي، ورأيت من واجب الضيافة ان اضيّفها بكسرة خبز، دارت حولها، تفحصت كينونتها، وربما تذوقتها، لا أعرف، كل الذي اعرفه انها انطلقت إلى الفناء مسرعة، لتعود بعد هنيهة ومعها خمس نملات اخريات، أربع منهن تكفلن بجر الغنيمة، والاثنتان الباقيتان تكفلن بحماية الأجنحة وتأمين الطريق من المتطفلين وقطّاع الطرق والسراق، في اليوم التالي، وكأننا على موعد، في ذات الزمان والمكان كانت تنتظر، لم اتردد في اكرمها، لكن هذه المرة كنت شحيحاً معها في العطاء، إلى الدرجة التي جعلتها تستغني عن طلب العون من صويحباتها.

لم أستطع ان اكبح جماح فضولي حين وجدتها تنزلق بحملها من عتبة الباب الى الفناء الخارجي، مشيت خلفها، برمجت خطاي على هوى خطاها، فلا انا الذي ادركها، ولا هي التي عن ناظري تغيب، حتى أدركنا نقطة التجمع، وهي نقطة التقاء النسيب بفناء الدار، والتي تعتبر بمثابة خط الشروع لرحلتيّ الذهاب والإياب، كنا قد مررنا بأعداد كبيرة من تلك المخلوقات المجتهدة التي لا تكل عن الحركة ولا تمل، وهي تجري مسحاً شاملاً لفناء الدار وما حولهوحين ادركت نقطة التجمع، انطلقت نملتي على النسيب الطويل الذي يؤدي إلى المستعمرة، ولكثرة الزحام، رغم انني لم اشهد اي اصطدام او عملية دهس، خلت ان النسيب بحاجة إلى رجل مرور ينظم حركة السير!

 هكذا نحن البشر لا ننتظم ولا نفكر ان ننتظم ونعجب إذا ما رأينا مثل هكذا مخلوقات نعتقد انها غبية تنتظم بلا رقيب، وإما عن الوقفات التي لا تتجاوز مدة الواحدة منها بضع ثوان، فهي كثيرة، لكن ليس لكسب الوقت وطلب الراحة، لا كل الذي يحدث أن نملة ما تستوقف أخرى، تتبادلان الإشارات، ومن ثم تمضيان كلٌّ إلى وجهتهاوانا اتعقب خطى نملتي وهي تمشي الهوينا.

وصلت إلى كومة تراب تشبه الهرم، وفي ذروة الهرم فتحة بقطر الانش او يزيد على الانش بقليل، دخلت نملتي من خلالها، وتوارت عن ناظريَّ، لكنني كنت متيقننا بأن الغد سوف يكون موعدنا هناك في غرفتي، وقبل ان ارجع وقفت مليا اتأمل تلك المستعمرة عن كثب، اراقب حركة الدخول والخروج والحجيرات التي بحجم حبة الدخن، والتي تلقي بها النملات العاملات إلى الخارج، خمنت ان وضع حجر الأساس لتلك المستعمرة لا يتجاوز بضعة اسابيع، وان أعمال الحفر والصيانة لم تزل جارية، وفي نفس الوقت لم أكن بحاجة إلى من يخبرني بأن هناك ملكة مستعصمة في غرفتها، وذكور كسالى ينتظرون فترة التزاوج على أحر من الجمر، دون أن يعلموا بأن نهايتهم متعلقة بتلك الفترة، وما تبقى كله من العاملات العقيمات اللواتي أخذن على عاتقهن إضافة إلى جلب الطعام ومواد البناء، مسؤولية الحفر وتشييد الغرف والحراسات وخدمة الملكةعلى هذا المنوال استمرت اللعبة بيني وبين تلك النملة، هي تحضر كل يوم الى غرفتي وانا اقدم لها كسرة خبز، ولشدة تأدبها، لا اذكر انها حضرت مرتين في يوم واحد!

ذات يوم كله شؤم عدت من العمل وكنت في حالة تعب وارهاق شديدين، وحين فتحت الباب ووقع نظري على الارض لم تكن موجودة، لكن حين اقتربت من السرير لم أستطع أن اضبط إيقاع تصرفاتي حين وجدتها مسترخية على اللحاف، التقطتها على الفور دون أن اكترث لمقاومتها بين سبابة يدي والابهام، لم اكتف بقذفها على الأرض، لا، دفعتني رعونتي لأن اسحقها تحت حذائي، يا للعار، ربما كانت في انتظاري، وربما كانت تعتقد أننا أصبحنا أصدقاء..، ليست هكذا الصداقة يا انا! حين رفعت قدمي عنها، ياويلي! لم يبق منها إلا بقايا قشرة سوداء وصبغة ذات لون باهت!

غيرت ثيابي على أمل أن احظى بقسطٍ من الراحة، ومن أين تأتي الراحة، كلما نظرت إلى مكان الجريمة يساورني الندم. ولكي اكفر عن خطيئتي رميت كل ما هو موجود من طعام في فناء الدار !وبعد ساعة أو ما يزيد على الساعة بقليل حضر إلى غرفتي خمس نملات، وكمن يجري كشف دلالة بغياب الفاعل، درن حول الموقع، تفحصن الصبغة والقشرة، اجتمعن، تشاورن…اختلفن، تفرقن، اجتمعن من جديد، تشاورن، اتفقن، اختلفن، وفي نهاية المطاف تكفلت احداهن بحمل القشرة، وفي موكب جنائزي قفلن خلفها راجعات.

في المساء، دون جدوى حاولت أن اتناسَى الموضوع، اطفأت النور، ازحت الستارة عن النافذة كي ابقي على النور الذي ينبعث عبر زجاج النافذة من الخارج، خلدت الى النوم او هكذا اعتقدت، شعرت إن شيئا ما يزيح اللحاف عن ساقي، حاولت أكثر من مرة أن ارفع يدي الى زر الكهرباء لكنني فشلت، لكن، من خلال الظلال الذي برز على الجدار المقابل للنافذة، ثمة صورة لمخلوق خلت في البداية انها صورة كلب، وبينما اتمعن في الرأس الكروي والقرنين والفك العظيم الذي يشبه منقار الطير المنفرج، والمؤخرة المخروطية والخصر الدقيق، تيقنت انها نملة بحجم كلب اطبقت فكيها العظيمين على ساقي وكادت ان تبترها، ومن شدة الألم، صرخت وقفزت من سريري على الأرض، وبصعوبة بالغة أدركت الزر الكهربائي، وحين ملأ النور جوف الغرفة، رغم ان الباب مغلق وكذلك النوافذ، لم أجد لتلك النملة الهائلة اي أثر! هل يعقل انها تبخرت مع دقائق الظلام، ام ان كل الذي جرى لي في تلك الليلة مجرد كابوس مزعج؟

كابوس ! هه ! لكن ماذا عن ساقي التي كادت ان تبتر؟ ماذا عن بركة الدم على البلاط، واللحاف المخضب بدم ساقي؟ لا، صدقوني إن الذي جرى لي في تلك الليلة حقيقة، نعم حقيقة والبصمة التي تركتها تلك المخلوقة الخرافية على ساقي، هي خير دليل على صحة ما أقول!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.