من هو الشبح؟

من هو الشبح؟

دعاء عبد الله الجابي 

اللوحة: الفنان السوري محمد داود

علَّمتني الحياة، ألا أقف شاردة عن تلك اللحظات الجميلة، غائبة عنها، مُكبلة بوابل أحزاني، بل كان لابد أن أعيشها بكامل تفاصيلها، أن أتشبث بشخوصها جيدًا؛ لتنتشي بها ذاكرتي مستقبلًا، وما أكثر أولئك الذين يمنحوننا الحب والجمال غير أننا منكرون!

ربما لقسوة أكسبتنا إيَّاها الحياة فتركتنا عرايا يأكلنا القبح؛ لذا دومًا ما أعود إلىٰ ذاكرتي أغترف منها بعض لحظات الزمن الذي ولى، أسكبها علىٰ قارعة يومي المُحمل بأعباء الحياة فيبتسم من جديد، ومن بين تلك الذكريات المشهد التالي:

في حارتنا القديمة كانت أغلب البيوت متشابهة، ما عدا غرفة واحدة كانت يتيمة ورَثَّة في منتصف الجزء الذي على يسار الحارة، يسكن بها شبح مخيف بلغ من العمر عتيا، يأكل الصغار في الليل أو حتى في وضح النهار لا يهمه أحد (هذا ما أخبرني به أطفال الحارة الأكبر سنًا) ومنذ ذلك الحين وأنا أتحاشى المرور من أمام هذه الحجرة؛ خوف أن يبتلعني هذا الشبح دون أن يدري أحد، وإذا ما اضطرتني الظروف للمرور من هناك، كنت أصل الجهة الأخرى في لمح البصر، كنت أكبر وتكبر معي الأسطورة التي بداخلي.. الخوف بدد الشغف الذي يتملكني تجاه الأشياء المجهولة، فلم أفكر في حل اللغز الذي يكمن هناك خلف الباب الخشبي العتيق، لا أملك الجرأة الكافية، تهاوت شجاعتي..!

وذات ظهيرة صيفية شديدة الحرارة بينما الكبار نائمون، كنا نحن الصغار نخوض معارك اللهو لا يعنينا حر الصيف، إذا بي أسمع صوتًا من خلف هذا الباب ينادي:

– أنتَ يا واد أنتَ وهي..

هرب جميع أصدقائي، لكني تخشَّبت مكاني، خانتني قدماي في هذه اللحظة، وإذا بصوت الشبح يقترب مني شيئًا فشيئًا، وخطواته الثقيلة تزداد مني قربًا، وأنفاسي تنحسر شيئًا فشيئًا، عندما وضع يده علىٰ كتفي كدتُ أختفي في مكاني مناشدة الأرض أن تبتلعني قبل أن يبتلعني هو..

عندما التفت لأواجه مصيري كان الشبح عبارة عن امرأة طاعنة في السن تُمسك في يدها منسأة عتيقة بعمر الحياة، وفي يدها الأخرى دلوا بلاستيكيًا أزرق اللون، ناولتني إيَّاه علىٰ الفور قائلة:

– اجري يا بنتي املي الجردل ده ميه من بيتكم.

أخيرا استعدتُ أنفاسي، وبدأت الأفكار تراودني وأنا في طريقي لملء الدلو:

– أحقًا هي بشرية مثلنا، أم أن الأشباح من الممكن أن تظهر لنا في صورة إنسان؟!

ملأت الدلو وعدت، لأدخل لأول مرة وكر الأشباح هذا، كانت غرفة رطبة، هادئة ومرتبة، بالكاد تتسع لشخص واحد، حيث تشتمل علىٰ المطبخ وغرفة النوم في آن واحد.. ومنذ ذاك الحين أصبحت أنا والشبح الذي تبدل لامرأة عجوز طيبة أصدقاء، أزورها يوميًا إلى أن أخذها الموت.

علمتُ فيما بعد أن لها أبناء وأحفاد كانوا لا يأتون لزيارتها أبدا.. فلما كبرت أيقنتُ أنهم الأشباح الحقيقون على هذه الأرض!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.