هيام علي
اللوحة: الفنان البلجيكي رينيه ماغريت
وجوه أراها هنا وهناك، يرتدون الأقنعة، يخبئ كل منهم حقيقته المزيفة، أراهم خلف شاشة التلفاز، وعلى الجانب الآخر أرى فتيات يفتتن بهم.. تقول لي صديقتي: انظري إلى هذا الممثل فهو وسيم أتمنى أن يكون لي في يوم من الأيام، أنظر إليها باستغراب يعتريني، إلى هذه الدرجة وصلنا إلى التفاهة، نحكم على الأشخاص بوجوههم، أما أنا فلي رأي آخر أنا أعشق القلب الذي يحتويني والعين التي تراني كما أنا، هكذا أخبرتها، هنا ضحكت ترى بوجهة نظرها بأني تافهة، وأنا أنظر إليها بثقة كاملة بأنها خاوية من الداخل، فهي صديقتي الوحيدة وفاء، عشت معها عمري الصغير ولكن برغم اختلافنا، فأنا أحبها .
قالت لي: عنان
-نعم؟
ماهي مواصفات زوجك التي تتمنين الاقتران به؟
– سرحت في بحر أحلامي، زوجي هو الروح والحياة، هو نبض القلب وقرة العين، هو سكني ووطني بلا اغتراب .
صاحت بانزعاج: كفى كفى يا ليتني ما سألتك، ابتسمت دون كلام همست داخل قلبي .
همست لنفسي: كيف لها أن تفهمني وهى كل ما يربطها بالرجل وسامته؟!
كنا على موعد، فاليوم ليلة رأس السنة، وكعهدنا كل عام في هذا اليوم نذهب إلى “كافيه” صغير على أطراف المدينة، نجتمع مع بعض الرفقة، نقضي بعض الوقت ثم نرحل كل إلى عالمه، ولكن هذه السنة غيرت مجرى حياتي عندما قالت لي: هذا اليوم سيكون مختلفا يا عنان.
– كيف؟
قالت: سيرتدي كل منا قناع مثل الأفلام القديمة التي نشاهدها عبر التلفاز، الآن ماذا سترتدي؟
أجبتها: أنا سأذهب كما أنا، فلا أحب الأقنعة.
نظرت إلي بغيظ دفين دون أن تجيب، فهي تعلم كم أنا عنيدة.
في المساء ارتديت أجمل فستان لديّ، ولأن الجميع يعلم كم أنا فاتنة، فأي فستان أرتديه سيكون حتمًا رائعًا.
دقت الساعة التاسعة مساءً، عندما دخلنا الكافيه كانت الإضاءة خافتة ممتزجة بألوان هادئة تنعكس على الطاولات المتراصة بطريقة أنيقة ملفتة للنظر، جلسنا أنا وهى وبعض الفتيات الأخريات تبادلنا الأحاديث والضحكات، إلى أن رأيته يدخل، شاب طويل القامة، ملابسه أنيقة، رائحة عطره تسبقه، يدخل وحيداً دون صُحبه، جلس على الطاولة المقابلة ليّ، لم أر سوى عينيه، أما وجهه فيختفي خلف قناع لملامح مشوّهة!
بدأت الموسيقى تنتشر في كل مكان كرائحة عطره، في لحظة أصبحت وحدي، كل الفتيات يتراقصن على أنغام الموسيقى، وأنا أرقص داخل عينيه التي سحرتني من أول نظرة، لا أستطيع النظر إليه سوى بضع لحظات ثم أخجل، لم أكن أعلم بأنه أيضا يرمقني من وقت لآخر، لا أعلم كيف واتتني الجرأة للاقتراب منه وجلوسي أمامه، انتفض من مكانه حاول التملص مني ولكن بادرته بإبتسامة جعلته يستقر مكانه ويهدأ .
قلت بحياء: أنا أسفة
- لماذا؟
لأنني إقتحمت عليك عزلتك
قال بأدب جمّ: لا لا أبداً فأنا كنت أنتظرك، لم أشعر بجسدي الذي أصابته رعشه خفيفة وأسرع لساني بالجواب: وأنا أيضاً كنت أنتظرك، كل منّا يعرف الآخر منذ زمن بعيد، كأن القدر أراد لنا هذا، نسينا الزمان والمكان تحدثنا في كل شيء، أرى من خلال حديثه إنسانًا مثقفًا يعشق عمله، علمت أنه أسّس بمفرده شركة إستثمارية صغيرة حتى نَمَت شيئاً فشيئا .
سألته: ما أسمك؟
باقتضاب: مجدي
وأنت؟
-عنان
أخبرني: اسم جميل كصاحبته، شعرت بالخجل للمرة الثانية، مددت يدي إلى وجهه كي أزيل هذا القناع، أمسك يدي بقوة .
قائلاً: ماذا تفعلين؟
قلت بحدّة: أريد أن أرى وجهك الحقيقي، تحشرج صوته وتخايلت أن الدموع تحجّرت بعينيه وترك يدي تتحسس هذا القناع .
قلت في نفسي: لا لا لن أصدق ما تراه عيني، لم أجد قناع على وجهه، هنا إبتسم بحزن ثم تركني ورحل قبل أن أخبره بأنه هو الحياة، من دونه الموت، بحثت عنه طويلاً حتى علمت بمكان عمله، ذهبت إليه، دخلت مكتبه دون استئذان، وجدته يباشر عمله الذي يعشقه.
قلت: لماذا رحلت وتركتني؟
دار بيننا حديث طويل، انتهى بقرار حاسم: الزواج.
وقفت أمام الجميع، أهلي، صديقاتي، حتى أمام نفسي، قضينا أجمل الأوقات ونحن نؤسس بيت الزوجية، وجاء اليوم الذي تمنيناه معا، أن يجمعنا جدران واحدة، كانت أجمل لحظة في حياتي عندما دخلنا البيت حتى وصلنا إلى حجرة النوم .
صدمتي حينما نظر إليّ وقال: سأتركك الليلة وسأنام في الحجرة المقابلة ثم تركني .
بخجل قلت: لماذا؟ سؤال دون إجابة، إذ كنت أحدّث الفراغ! لماذا تركني هنا وحدي في ليلة تمنيتها بأن يجمعني به مخدع واحد ووسادة واحدة، بدّلت ملابسي ولم أستطع النوم، حاولت ثم فشلت، نهضت من على السرير، اتجهت نحو الغرفة المقابلة، فإذا بابها لم يغلق جيداً، سرت ببطء فتحت الباب، فإذا به يجلس على كرسي يخيّم على رأسه يأس، اقتربت منه، رَبَتُ على كتفه، داعبت برفق شعيرات رأسه الفاحم.
رفع رأسه إليّ ولثم يدي وقال: أنا ظلمتك معي، أنت تستحقين أفضل منيّ، ما أنا سوى جسد رجل بوجه مشوّه، وضعت يدي على فمه، اقتربت منه وقلت: بل أنت أجمل رجل رأته عيناي، ثم احتضنته بشوق ملأ قلبي، مرت الأيام والشهور وأنا في سعادة أحسد نفسي عليها، إلى أن أتى يوم من أسوأ أيام حياتي حين قال: حبيبتي
-نعم حبيبي!
قال: سأسافر لمدة شهر في عمل خارج البلاد.. ولأنني دائما أدعمه، وافقت على مضض . بالفعل تركني ورحل، مرت الأيام بطيئة، كئيبة لا روح فيها، إلى أن رن جرس الهاتف.. وإذا بصوته يتغلغل في عروقي.
-حبيبتي
-حبيبي أين أنت؟
-أنا في المشفى .
انعقد لساني، وقبل أن اتفوه بكلمة بادرني، لا تخافي فأنا في الحجرة رقم “٤” ،أنا في انتظارك، ذهبت إليه، بلهفة بالغة فتحت الباب، فإذا بشاب يجلس على سريره .
ابتسم وقال: تعالي حبيبتي
-من أنت؟
-أنا مجدي زوجك
-نظرت إليه بنظرة شاملة، ثم إلى وجهه، لم أجد بين ملامحه زوجي الذي أعرفه .
بجزع أخبرته: لا لا، أنت لست مجدي .
بفزع سألته: من أنت؟
-قال: أجريت عملية تجميل .
صرخت فيه: أين زوجي؟ أين زوجي؟
حاول تهدئتي.. خرجت من الحجرة إستقبلني الدكتور الذي أجرى له عملية التجميل .
قلت له: أين زوجي؟
قال: هو أمامك .
قلت: لا ليس زوجي، هو رجل آخر يرتدي قناعا.