اللوحة: الفنان الفرنسي ويليام بوغيرو
النديم
فلمّا رأيته كان يقترب من الثمانين، بينما كنت أتجاوز سنوات الصبا، أمسك يدي بقوة ثم نظر طويلًا في عيني وبحدة قال: لعبور الطريق أحكام وآداب ينبغي مراعاتها، فهل ستفعل؟!
أجبته بتلقائية من لم يخبر الحياة وضلالاتها بعد: نعم قرأت عن ذلك.
فضغط بشدة أقوى على رُسغي وصاح: ساعدني على العبور إن أمكنك، فخطوت معه وبه بين أودية وشعاب كثيرة، تمرق بجوارنا سيارات أصحابها ندماء لملك الموت، بين ضحكهم وصخبهم لفّني خوف كبير، فقبضتُ على يد الشيخ صحت به: أسرع..
ردّ: لمَ؟!
– عجيب أمرك، الوقت يمر، الزحمة تدنو بجبروتها اليومي، سنفقد حريّتنا في الحركة.
كانت أنفاسي تتصاعد بين جنباتي، يضيق صدري تدريجيًا، وهو ينظر إليّ متعجبًا، ثم همس برفق: أتخشى الطريق أم تخشاني؟
قلت: لا، لكن ضقت بك و بطريقك هذا، أنت من طلب المساعدة، فلا تجعلني أندم على فعل لم أقم به من قبل.
– بعصبية أزاح يده بعيدًا، زعق: يمكن أن تنصرف، دعني فأنا… لم أتركه يُكمل عبارته فاقتربت منه، رجوته أن يقبل اعتذاري، مازحته: كأنيّ أعرفك من قديم!
أجاب: أو كأنك تُنكرني، فما اخترتك إلاّ لأساعدك ولأُقيلُك من عثرتك، فأنا منذ ثمانين عامًا أو تقل قليلًا، أرقبك، أحزن لألمك وأفرح لسرورك وما أندره! حتى ارتويت مما رأيت فعزمت أن أساعدني حتى أنجو ولو بعض الوقت.
قاطعته هذه المرة وعلا صوتي فوق نبرته الهادئة الواثقة: عُمري يقل عن رُبع ما عشته أنت على الأرض، فأي مراقبة كنت تفعلها معي!! حديث جنون أم هذيان شيخوخة؟!
قطب جبينه ثم انصرف، وصلتني منه بضعة كلمات وحروف متناثرة فهمت منها: لا يقوى على الرؤية إلاّ من به مسُّ.
خلية نائمة
وهو يُنهي حواره بالأمس، أشار صراحة إلى أن الهجران المفاجئ يُربك، يدفع لتصرفات غير عقلانية، تُخرج صاحبها عن حد المنطق الطبيعي.. وأنت وأشار بيده ناحيتي: سبب رئيس لما يحدث، ثم سألني: لمَ ابتعدت دون إخطار مسبق؟
قلت وأنا أنظر إليه، ذاك سؤال كنت أبحث عن إجابة له من فترة غير قريبة، لكنك طرحته بطريقة خاطئة، الصحيح أن البُعد ليس سببًا للعداء المُعلن الآن..
فسألني ووجهه غارق في حيرة: فما السبب؟
فأجبته: الأمر بسيط والتفسير لا يحتاج لإرهاق العقل، ليس البُعد ولكنه السبب، لا يعنيهم الابتعاد قدر معرفة ما دفعني لهذا، ما قد علمته، ما عرفته حق المعرفة، ما أدركته ولا يجب البوح به، ثم أثنيت بقولي: تذكّر أن الجهل لا يكون أحيانًا نعمة لصاحبه..
فسألني من جديد، هذه المرة وجدته يتفحّصني من رأسي لأخمص قدمي، كمن يبحث عن ثغرة لينفذ منها إلىّ: إن كنت عرفتهم هكذا، فلمَ دامت علاقتك بهم؟
كنت أستعد للمغادرة، حينما مددت يدي لتوديعه، قلت: دومًا يراقبك أحدهم، يحصي عليك أنفاسك، يفعل ذلك بدافع فضول أو كعمل لقاء أجر للغير، لكن الجميل أن تدرك أنت هذا، أن تعرفه مبكّرًا، أن توظّفه لخدمتك، أن يدور في فلكك وهو يظن أنه أحكم طوقه حول رقبتك.
ثم شددت على يده وأكملت: يا عزيزي، هي لعبة جميلة إن أجدتها، شريطة أن تعرف من تلاعبه أو تتلاعب به.. لذا من الغباء أن تكشف أوراقهم في لحظة غضب أو يأس، فأنت لا تعلم مَن ستلاعب من جديد!، مَن مِن الخلايا النائمة القريبة منك، التي سيدفعون به أو بها إليك؟!