حسن عبد الموجود
اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني
كان يلعب معي عصر كل يوم، أهزمه دائما.. وأضربه أحيانا.. لم يكن يخبر أمه بما حدث لشدة حبه لي حتى لا تمنعه من اللعب معي فكان يكتفي بأن يصعد غاضبا يحمل كرته تحت إبطه حيث غرفتهم التي تقبع في الدور الثاني من عمارتنا العالية.. أو هكذا يدعى أبى.
سألت أمي عن هذه الغرفة فأخبرتني أنها أضيق بكثير من غرفتنا التي تقبع تحت السلم.
كنت أقتنع جدا بكلام أمي وأبى لأنهما كانا دائما يحققان لي رغبتي في التفوق على أحمد جارنا الفقير حتى ما كنت أتمتع من تعليم مجاني لم يكن يتمتع هوبه فقد حرمه أبوه من الذهاب إلى المدرسة لأنه لا يستطيع أن يحضر له الثياب والأدوات.. أو هكذا أخبرتني أمي عندما سألتها لماذا لا يذهب أحمد معنا إلى المدرسة؟! لم أكن أكلمه عن مدرستي وعن تفوقي على زملائي خوفا من الحسد.. بهذا أوصتني أمي.. وهو لم يكن يكلمني عن سبب تخلفه عن الدراسة لعل ذلك لخجله الشديد من فقرهم المدقع… أو لعل أمه أيضا أوصته بعدم الحديث في هذا الأمر.
أذكر ذلك اليوم جيدا حين قامت أمي كالعادة عند صلاة الفجر وأحضرت ما يحتاجه سكان العمارة بينما ظل أبى كعادته راقدا على ظهره منتفخ البطن كبرميل.. كنت أعجب دائما لماذا تقوم أمي بهذا العمل الشاق ما دمنا أغنياء فأخبرتني أن الأغنياء أمثالنا يجب أن يساعدوا الفقراء ولو ببعض مجهودهم ليبارك الله لهم في مالهم.
لا أنسى ذلك اليوم الذي أصبت فيه بوعكة صحية شديدة أقعدتني عن الدراسة على غير العادة فأنا في عامي الابتدائي الثالث ولم أتخلف يوما عن الدراسة إلا ذلك اليوم ولم تسترح قدما أمي وقدماي من السير لأربعة كيلومترات ذهابا وعودة في أيام الدراسة إلا في ذلك اليوم، نعم كنا نمشى هذه المسافة رغم وفرة السيارات حتى نعتاد الحركة والنشاط ولا نستسلم للكسل.. بهذا كان يقنعني أبى وهو مستلق على ظهره كالعادة
كنا نخرج في السادسة بعد عودة أمي من السوق قبل موعد الدراسة بساعة أو يزيد حتى ألحق بطابور الصباح اليومي الذي أكمل به نشاطي اليومي المعتاد.
تمددت على الأرض كالعادة بجوار أبى الذي ما زال يكمل (سمفونية)الشخير التي أعتدنا سماعها صباح مساء.. في السابعة تقريبا سمعت خطوات فوق رأسي مباشرة إنه أحمد أنا أعرف خطواته جيدا، بل أعرف خطوات كل سكان عمارتنا قمت في تثاقل لأقابله لعله علم أنني لن أذهب اليوم إلى المدرسة فنزل مبكرا ليلعب معي.. مسكين سيصدم عندما يراني على تلك الحال من المرض الشديد.
هممت بفتح الباب لكنني تسمرت مكاني عندما رأيته من فتحة بابنا الخشبي، تلك الفتحة التي تتسع لنصف وجهي حتى أنني أستطيع أن أنظر بكلتا عيني من خلالها، كان أحمد في أبهى ثيابه يحمل فوق ظهره حقيبة ضخمة أجمل بكثير من مخلتى البالية.. توجه نحو باب العمارة مباشرة حيث كانت أمي تمسك بخرطوم المياه ترش أمام العمارة التي ما زلت أقتنع أنها ملك أبى النائم.. هكذا تعودت أمي أن تفعل كل صباح بعد أن تنظف الشارع أمام عمارتنا جيدا ” فالنظافة من الإيمان ” هكذا كانت تردد أمي دائما.. خرجت مسرعا خلفه لأعرف إلى أين يذهب هذا المسكين وحده دون أن تصحبه أمه إلى حيث يريد.
ذهلت أمي حين فاجأتها عند الباب حاولت دفعي لتدخلني لكنني امتنعت بشدة حين رأيت حافلة ضخمة تقف عند أول الشارع ثم نزل صوت أم أحمد على كالصاعقة حين خاطبت أمي بلهجة جديدة لم أسمعها من قبل.. كانت في شرفتها حين صرخت في أمي: وصلى أحمد للأتوبيس يا جملات وسيبى اللي في أيدك ده دلوقتي.
تصلبت ملامح أمي وهي تنظر الي في إشفاق وذهول ثم ردت في خضوع عجيب لم أرها تدين به لأحد من قبل: حاضر يا ست هانم.. تجمدت الدموع في عيني َفقد علمت أخيراً لماذا لا يذهب أحمد معنا.