اللوحة: الفنان السوري عادل داود كردي
ما بين ارتفاع آذان العشاء وإقامة الصلاة كانت مكالمتي الهاتفية معه، وردتني قبيل ثوان، اعتذر من طول انقطاع للحيدث بيننا، برّر كما يفعل كل مرة بظروف وعمل، غيرها. اعتدت أن أرحب به، أمازحه في سوء حظه،أثني على رجاحة عقله.
لكن تلك الليلة بدا صوته شاردًا، فسألته،فعاجلني بإجابة سريعة كأنما ينتظر سؤالي هذا: أهاتفك وأنا أقف خارج سرادق عزاء ببلدتنا النائية على أطراف “المنيا”، تلك البلدة التي يحتضنها الجبل الوعر من جهاتها الثلاثة والنيل من جهة رابعة، وضحك وقال: أحسب أن الطبيعة تُحكم وثاقها على سكان هذه القرية البائسة.
فرددت عليه قوله: ليست بلدتكم منفردة عن باقي قرى ومدن الجمهورية، أقصد البؤس والشقاء، فجميعنا يرفل فيه بصورة أو بأخرى أو أظن أننا نقف على درجات سلم يبدأ من اسفل بالبؤس وينتهي أعلاه بالشقاء…
فأمّن على حديثي بصوت هامس : شغلني عنك ظرف طارئ، فقد توفّي عمي صبيحة اليوم، وأنا أحدّثك بعد أن توقف المقرئ لأداء فريضة صلاة العشاء.
فأسفت للفجيعة وأخبرته: الدوام لله، يكن سؤال سخيف يا صديقي، كم ان عمر الرجل حين انتقل إلى جوار ربه؟
فقال وهو يغالب دموعه: تجاوز الثمانين بقليل..
فكيف مات؟ بمرض عضال ؟ حادثة؟
فأتاني صوته ينفي كل فرية أحاطت بموت الفقيد: لا لا كان صلبًا حتى ساعته الأخيرة كحائط من رخام جرانيتي، لم يذهب لطبيب أبدًا، مقبلًا على الحياة كشاب عشريني يدلف للجامعة بيومه الأول بها.
فانفطر قلبي لتلك النازلة التي أصابته وقلت مواسيًا وأنا أغالب دموعي: لا أحد كبير أمام الموت، لكن يعتريني حزن خاص حينما اسمع بوفاة ثمانيني!
فسألني بدهشة : لمَ؟ اشمعنى يعني؟!!
فقلت ويصل لأذني حشرجة مايكرفون المأتم تختلط باقتراب نعال المعزّيين مع صوت الصديق: من تجاوز مثلنا منتصف عقده الخامس وقد تناوشته الأمراض من كل صوب، ويأمل أن يعيش حياته كما يحلم بها، يحق له أن يعتصره الحزن، فحين يموت رجل مثل عمك وهو بكامل عنفوانه، نفقد نحن كل أمل في الخروج من النفق.