السجين

السجين

د. هشام منصور

اللوحة:الفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا

نسيم الليل كان ألطف من ملمس الورد ذاك المساء. ارتخى على كرسيّه البلاستيكي بعد نهار طويلٍ مُرهِقٍ بينما كان يستعدُّ لإمضاء ليلٍ أطول بين جدران المستشفى العتيق الجديد. 

كان مسرورًا لإمضائه سنة التّدريب هذه، قريبًا من منزله، بعيدًا عن ضوضاء بيروت وازدحامها، بين أحراش الصّنوبر في ذلك المستشفى الذي أُنشِئ بدايات القرن الماضي للعناية بالأمراض الصّدريّة قبل أن يستحيل مستشفًى حكوميًّا عامًّا.

لم يكن في عجلة للذهاب إلى النوم فهو سيغادر المستشفى عند الصباح الباكر في الغد كونه يوم أَحَدٍ، ولم يكن يمانع بالتضحية ببضع ساعات راحةٍ مقابل الاستمتاع بمشهد شاطئ المتن المتلألئ بالأضواء طوال الليل تحت ضوء القمر المكتمل بدرًا يرسم على الأرض كلَّ أشكال الظلال.

 كان ذلك المستشفى يُصنّف غير مركزيٍّ لقلة الموارد التي فيه شأنه شأن معظم المستشفيات الحكومية، فكان يقصده الطالب الباحث عن وقت ليتحضّر فيه لفحوصاته بهدف السفر إلى الخارج، والطالب الباحث عن كلّ فريد وغريب من المعضلات الطّبيّة التي يعجز المصاب بها عن التداوي في مشفًى خاصّ، فتتشعّب حالته وتتعقّد فتصير أحجيةً طبيَّةً تُعجِز أَخْبَرَ الأطبّاء وأعتقهم.

أعاد تسريح بصره بهدوءٍ على شاطئ المتن الذي كان يبدو كحزام مخملي أسود مرصّع بالمس والياقوت، يمتدُّ إلى لا منتهيات العتمة تحت أنظار المستشفى الرابض على كتف بلدة رومية الهادئة. 

كانت غرفة الأطباّء المقيمين تقع على السّطح مباشرة، عُلِّيَّةٌ هانئةٌ من أربع غرفٍ مع صالةٍ واسعةٍ ومطبخٍ، يحيط بها سطحٌ واسعٌ مثاليٌّ للرِّياضة اللَّيليَّة وخصوصًا في فصل الشِّتاء تحت المطر، حيث كان يتوجب على الطّبيب أن يستعين بسرعة ساقيه لعبور المساحة المكشوفة بين باب القاعة ومدخل السّلالم في النّاحية المقابلة من السّطح فَيَصِلُ مبلّلًا يوم تتكرَّم الطَّبيعة بزخَّات المطر الغزير.

كان قد أنهى دورته المسائيَّة على المرضى وأعاد كتابة وصفات اللَّيل بعد أن هدأت غرفة الطوارئ التّي كانت اكتظَّت بالمصابين بضربات الشَّمس والالتهابات الصَّيفيَّة في ذلك اليوم المثاليِّ لارتياد شواطئ البحر. 

كان عشاء المستشفى يومها عبارة عن سلطةٍ خفيفةٍ مع الدّجاج المشويِّ وبعض من المعجنات التي كانت سيدة المطبخ تحظيهم بها وتكثر يوم يكون عدد مرضى المستشفى قليلًا. أما في الأيام الباقية فلم يكن هناك من مهرب من طلب الطَّعام من الخارج. 

 لم تكن تلك لحظات للاسترخاء مع الموسيقى أو مع كتابٍ روائيٍّ أو فلسفيٍّ، كانت تلك ساعة نقاهةٍ يراجع فيها ما صادفه اليوم من مآسٍ في غرف المرضى، الطّبيّة منها والاجتماعيّة. كان ذلك المستشفى صورة منمنمةً عن واقع حال شريحة واسعة من الذّين يرون وجه الفاقة قبل شروق الشمس ولا يجدون سترًا عند هجوم الأوبئة والأمراض.

كان مشهد الشاطئ تحت وشاح القمر يهدّئ من خواطره دون أن يسكنها فيبقى على هدوءٍ قلق ينتظر رنّة جرس الهاتف التي تستدعيه إلى غرفة الطّوارئ أو العناية. 

لم يخيب الهاتف أمله ولم يتأخّر 

  •  دكتور في عنّا مريض “بالع”

 تلك العبارة كانت نشازًا عن المألوف منذ شهرين، فهو لم يسمعها سابقًا كسببٍ طبيٍّ يستدعيه إلى غرفة الطوارئ 

  •  “شو بالع يعني”؟ كان ذلك جوابه البديهيّ عندما سمع هذه العبارة للمرَّة الأولى. ضحك ممرِّض الطَّوارئ حينها وأجابه ضاحكًا: “كل شي وارد يا دكتور” 

أمّا اليوم، فقد أصبحت تلك العبارة من مألوفات القاموس الطّبّيّ اليوميّ. 

  • –       “يلّا جايي”، أجابه سريعا، “شو وضع المريض؟ تعبان؟”
  • –       “على مهلك يا دكتور! المريض مليح وأصلًا ما فيك تجي بسرعة، عَمْ يْصَلّحُوا الأسنسير، بَدَّك تنزل على الدرج”، أجابه الممرّض ضاحكًا بلكنته غير المحلّيَّة.

كان هذا النوع من المرضى بمثابة صندوق مفاجآت، كلَّ مرة تعثر فيه على تحفةٍ تُثري حديث جولة الأطبّاء الصّباحيّة في اليوم التّالي حين يستهلّها الطّبيب المناوب بعبارة ” لو بتعرفوا شو شفت مبارح بالطوارئ”!

نظر إلى الفتى الطّويل القامة، النّاحل الجسم، الواقف قرب عربة الفحص في غرفة الطّوارئ الصّغيرة، مطأطأ الرّأس، مكبّل اليدين، محني الكتفين، وقربه شرطيٌّ يفوقه طولًا وضخامةً، مدججٌ بالسلاح، يراقب كلَّ حركةٍ في الغرفة بعينين ثاقبتين وكأنَّه صقرٌ يقتنص فريسته.

أشار للشرطي بنزع الأصفاد وللفتى بنزع قميصه وبالجلوس لكي يصبح مواجهًا له.

  • كم عمرك أيها الشاب؟ 
  • –        جاوِبْ الدكتور!” انتهره الشرطي قبل أن يبدأ بالكلام 
  • –       “واحد وعشرون سنةً” أجابه بصوت خافتٍ رفيع النّبرة مناقضًا ضخامة حجم الشّاب الذّي ما زال مُحنيًا رأسه يحدّق ببلاط الأرض العتيق.
  • –       “شو صار معك؟” سأله وهو يتفحّص يديه المجرّحتين عند الأجزاء المكشوفة بعيدًا عن الأَوْشام التي تغطِّي الكتفين. 

كانت الجراح دقيقةً متوازيةً متقاربةً وكأنها رسمٌ هندسيٌّ على فرض مدرسيّ. لم تكن الجراح حديثةً وكانت تغطّيها طبقةٌ من اليود المُطهِّر، ولم تكن تظهر عليها أيٌّ من علامات الالتهاب التي تستلزم استعمال مضادٍّ حيويّ. كان صدر الشّاب ومعظم بطنه مغطّيَيْن بِوُشُومٍ داكنة اللّون، كئيبة الأشكال، قاتمة المعاني، وكأن صاحبها أراد حفر شكل الحزن على جسده كي لا يداهمه النّسيان.

  • –       “هودي من مبارح يا دكتور،” سارع الحارس بالقول، “جرّب بس أخدنا الشَّفرَة منه. أخبر الدّكتور ماذا ابتلعت اليوم!” أكمل منتهرًا الفتى. 

لم تكن تلك المرّة الأولى التي يُحضر فيها السُّجناء إلى الطّوارئ ليلًا، فالمستشفى كان بخدمة السّجن المركزيّ، وكان فيه طابقٌ خاصٌّ بالسُّجناء. ومعظم الحالات الطّبيّة، لم تكن حالاتٍ طبّيّة طارئةً بقدر ما كانت حالات مفتعلة ربّما للهروب إلى المستشفى، لما فيها على ما يبدو من ظروف معيشة أفضل.

لم يكن يحقّ له أن يسأل عن الوضع القضائيّ لكلّ مريض، كان عليه فقط أن يهتمّ بالحالة الصِّحيَّة التي يشكو منها، ولكنه لم يستَطِعْ أن يمنع نفسه من التّساؤل عن معاثر الحياة التي رمت بهذا الشَّاب الفتيِّ باكرًا تحت عجلاتِ القَدَر.

  • –       “حاسس بأيّ وجع؟”
  • –        “لا يا دكتور” أجابه الشّابّ دون أن يرفع عينه
  • –        أخبرني ماذا ابتلعت إذًا؟ 
  • خمس بطّاريَّاتٍ كانت بحوزتي
  • –        متى فعلت هذا؟
  • –        اليوم صباحًا

 أشار إليه أن يستلقي على ظهره ليفحص بطنه بحثًا عن مؤشرات لالتهابٍ في الأمعاء أو لمضاعفاتِ أيِّ ثقبٍ فيها قد تحدثه تفاعلات الأسيد مع إفرازات الجهاز الهضميّ.

  • –       “فحصه سليم ولكنه يحتاج للمراقبة في المستشفى حتى عبور مرحلة الخطر” قال متوجّهًا بالحديث إلى الحارس بينما كان يلاحظ أمائر الرّاحة ترتسم على وجه الشّاب الذي انفرجت أساريره، وأكمل “ولكن علينا أن نجري صورة شعاعيّة لنتأكّد من الحادثة ومن موقع البطّاريّات في الأمعاء”. 
  • –       “أنا لا أكذب! صوِّرني يا دكتور وتأكّد” قالها الشاب بثقةٍ وهو يرفع عينيه ليحدّق فيه ثمّ وقف بقامته المديدة ومدّ يديه للشّرطيّ ليعيد الأصفاد، قبل أن يرافقه مع الممرّض إلى غرفة الأشعة،”شكرا يا دكتور” قالها بهدوء قبل أن يغادر الغرفة وقد عاد وأحنى نظره ليحدّق من جديد بالأرض.

كان عليه ينتظر بضع دقائق ليرى الصورة ويتأكد من محتواها، غالبًا ما كان يتنوّع المحتوى من البطّاريّات إلى شفرات الحلاقة بل وحتى إلى الشّوك والملاعق وإلى كل أنواع المعادن التي قد تحظى الأيدي بها في محاولة للهروب من واقعٍ أليمٍ ولو عبر آلام الجسد. 

جلس إلى الطّاولة العتيقة ليملأ الأوراق والمعاملات بانتظار تظهير الصّورة والكشف عليها، كان عليه أن يعطي المريض دواء حمايةٍ للمعدة وأن يضع الجرّاح في أجواء الحالة تحسّبا لحدوث طارئٍ يستلزم التّدخل السّريع. 

نظر من الشُّباك نحو السماء، كان القمر لا زال بدرًا يستوطن الأثير، لا زالت اللّيلة في بدايتها ولا أحد يعلم ما ستحمله من مفاجآت أُخرًى. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.