برد طوبة 

برد طوبة 

محمود حمدون

اللوحة: الفنانة الكويتية هاجر عبد الرحمن

تذكّرت مقولة أستاذ خضر, مدرس اللغة العربية, تلك التي قالها لنا كجملة اعتراضية بنهاية الدرس, إذ التفتَّ إلينا وعلى وجهه علامات جدّ وقال: المتشابهات تتآلف, تلتقي ولو بعد حين, فاستوضحناه مغزى حديثه, فاعتصم بصمت, كما يفعل كل مرّة يلقي إلينا بحكمة غامضة.

طَفَت حكمته من أعماق جُب ذكرياتي, منذ بضعة أشهر مضت, كان الشتاء في أوج قوته, كنت أخطو على طريق لا زلت حتى الساعة أتحسس موضع قدمي, لا زال غضًّا رطبًا, فبات نصيبي أن أسير على أطراف أصابعي كراقص باليه, يرقص مرغمًا, جاءت جلستي خلف امرأة توليني ظهرها, ثم تنظر إليّ من طرف, ولأنّي ودّعت المراهقة من زمن بعيد, فقد اقتربت على غير عادتي, وجدتها تقترب بحذر, سألتها : كأنّي أعرفك؟

فأجابتني بضحكة استقرت بين عينيها ولا تزال قائمة حتى الآن: بل أقسم أنّي أعرفك, ثم تصافحنا, سرى دفء يدها في عروقي فأحال برد طوبة  لجو ربيعي.. عندما لملمت أوراقي وجدتها تهمس: هاتمشي؟

فقلت: المتشابهات تتآلف, ما توقفت أبدًا عن السعي خلف الحُلم, وما كنت لأترك من يشبهني كنصف آخر, سأنتظرك بالخارج , فشدة الهواء البارد تكفي لطرد أي سخافة تحلّق حولنا الآن.

علّها تأخرت بضع دقائق, خلالها كنت أنظر شاشة هاتفي المحمول, تنير بعض ظلمة تلتف حولي تؤنس وحدتي, حينما عبّق الجو رائحة عطرها, مددت يدي لها, فبعثت بأطراف أناملها, تشابكت أصابعنا, تملّصت بخجل عُذري كصبيّة تلتقي حبيبًا لأول مرة. أغلقت سُترتي الشتوية, من جديد أتاني صوتها رقيقًا منبّهًا: حد يشوفنا!

فسألتها : عايز أعرفك 

فضحكت طويلًا ثم قالت: قلت من دقيقة كأنك تعرفني.

جذبتها ناحيتي قليلًا, فالتصقت بيّ لربما دون قصد, لربما بتأثير البرد القارص, عاجلتني بسؤال: عايز تعرف إيه؟

فقلت: أنت تشبهينني, مولانا خضر أخبرني منذ أربعة عقود بهذا, لمّا سألته: كيف سأعرفها؟ كيف أبوح لها؟ وجدته يجذب أذني بعنف مستحب ويقول : ستنحل وقتها عقدة لسانك, هي لحظة يتوارى فيها خجلك خلفك مسافة تكفي للبوح, فلا تخف ولا تحمل لتلك اللحظة التي سـتأتيك عاجلًا أو آجلًا همًّا.

ثم أكملت كلامي لها: تشابه الروحين لا يكفي للمعرفة, أرغب في الغرق بداخلك, أن تحكي ليّ عن كل شيء, عن نشأتك, نجاحاتك, عثراتك, تلك المرة التي دق فيها قلبك بشدة, عن أول سهم رماك به كيوبيد قاتله الله, عن تأرجحك بين القمم والسفوح..

قاطعتني: ستقتلك الغيرة, ستنقلب حياتك, سيغادرك النوم العميق, ستتناوشك الظنون حتى تصل لطريق تمقت وجودي فيه, لحظة تصبح غايتك ألاّ تقع عينيك على صورتي.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.