اللوحة: الفنانة الألمانية كاثي كولفيتز
- هناك مريض دخل اليوم إلى الطّابق الرّابع عشر، أريدك أن تتمّم ملفّه وتعود به إليّ لنناقشه قبل ساعة الغداء.
- ولكنّني لم أنتهِ من مرضى الطّابق السّادس بعد، أجاب رئيسة القسم متأفّفًا من طلبها الذي سيقلب نظام نهاره رأسًا على عقب.
- – “أنت الذي اكتشفت تشخيص الأخ الأكبر وكتبت ملصق البحث الذي تمّ قبوله للنّشر في مؤتمر جمعيّة أطبّاء الجهاز العصبيّ للأطفال السّنة الماضية، أنت تعرف هذه الحالة بما يكفي لتكشف على هذا الطفل، كما أنّك لست الطّبيب الوحيد في الطّابق السّادس، أترك ما في يدك واذهب إلى الطّابق الرّابع عشر”، قالت بنبرةٍ حازمةٍ منهيةً الحديث.
رغم إزعاج هذا الطّلب من طرف الأستاذة، كان يدرك أنّ ذلك تشريفًا بدرجة التّحدي العلميّ بالنّسبة له، أن يُطلب منه معاينة مريضٍ خارج إطار مسؤوليّته وأن يُرفَع إلى مصاف طبيبٍ يمتلك خبرةً في مجالٍ ما وهو لم يكَد ينهي سنته الأولى في هذا الاختصاص، وبالأخصّ عندما يأتيه التّنويه المبطّن والأمر المُعلَن من رئيسة القسم شخصيًّا.
في فرنسا، رئاسة قسم في مستشفى حكوميّ لم تكن مجرد حيازةٍ لمنصب تجاريٍّ وليد صدفةٍ أو علاقاتٍ عامَّة. بل ذلك يكون نتيجة سنواتٍ من الإنجازات العلميَّة ومئاتٍ من المقالات المنشورة في أرفع المجلّات الطّبيّة. رئيس القسم هناك مرجعٌ علميٌّ بما للكلمة من معنًى، فيحمل القسم اسم رئيسه لسنواتٍ طويلةٍ فيكون الآمر الناهي والمسؤول المباشر عن تقديم الخدمة الأفضل للشعب أثناء أدائه الواجب.
لم يكنْ أمامه سوى التوجُّه إلى مصعد المبنى القديم صعودًا نحو قسم المستشفى النَّهاريّ. كان يأنس لطاقم هذا الطّابق منذ مروره السّابق لديهم، فاستقبلوه على عادتهم بالتِّرحاب ودعوه لمشاركتهم فطيرةٍ بالليمون أحضرتها لهم والدة أحد المرضى هذا الصّباح.
- “اتركوه ينهي عمله، ألا تعلمون أنّه لا يستطيع الجلوس بسكينة قبل الإنتهاء من معاينة المريض”، قالت الممرّضة العتيقة ضاحكةً وهي تحيّيه وتعطيه الملفَّ، “إنّه في الغرفة الثّالثة، خذ وقتك كعادتك وأنا سأحتفظ لك بقطعةٍ من ال Tarte au Citron أعلم كم تحبّ طعمها”.
لم يتوقَّع أن يستقبله الوالدان بتحيّةٍ فرِحةٍ ولكن لم يتوقع أن تفاجئه الوالدة بدمعةٍ حزينة متسارعةٍ عند طرف عينيها لمجرَّد أن لمحته يدخل باب الغرفة.
بدأ بالتّعريف عن نفسه مذكِّرًا فبادره الوالد مسرعًا باللّغة العربية المغربيّة اللّهجة، مسكّنًا بدايات معظم الكلمات “صْباح لْخير، أهلًا دكتور”
كان قد مضى على وفاة ابنهم حوالي سنةٍ تقريبًا.
غصّت الوالدة بالدّموع التي وصلت بزمن قياسيٍّ من عينيها إلى حنجرتها وسارعت بالقول “هل طفلي هذا مثل أخيه؟ ألهذا أرسلوك لمعاينته؟”
رغم مضيّ أشهر على تلك الواقعة، إلا أنّه كان يذكر تفاصيلها بحذافيرها.
كان ذلك يوم خميسٍ، وكان قد أمضى ستة ساعاتٍ في عيادة الأستاذة وهو يتابع مراقبًا سيل الحالات المتدفِّقة واحدةً تلو الأخرى، و يحاول جاهدًا التقاط المعلومات، ذاكرةً وكتابةً، لغزارتها، فكلُّ مريضٍ كان يحمل حالةً أندر من سابقاتها، وندرة هذه الأمراض شبه المطلقة تجعل من تشخيصها تحدِّيًا متقدِّمًا مهما كانت الظروف والتّسهيلات، كان هناك لاكتساب مهارات التّشخيص السّريريّ.
حينها لم تكن الإنترنت متاحةً للبحث المباشر، لذا كان عليه أن يستعين بجهاز ال Palm TX الذي يحتفظ به في جيبه وقد أثقله بمئات المراجع الطِّبية، منها الشّرعيّ ومنها المُقَرصَن، ومنها الذي قام بتحميله من النّوادي الطبيّة، كلّ ذلك على شريحةٍ بسعة 125 ميغابيت وجهازٍ بذاكرة وصولٍ عشوائيّة من 32 ميغابيت فقط.
كان يعلم أنه سيتحيّن عليه إمضاء ساعاتٍ طويلةٍ من القراءة مساء ذلك اليوم للتّعرف ولامتلاك المعلومات عن الحالات التي اكتشفها سابقًا في ساعات العيادة.
آخر طفلٍ كان في الرّابعة من عمره يعاني من داء صرع من نوع west مع تأخر في الإكتسابات الذهنية والحركيّة وتأخر في نموّ الدّماغ. كان من والدين من أصول مغربيّةٍ، لاجئان في فرنسا. ولم يكن باستطاعتهما الاهتمام بالطّفل فعهدت به الدّولة إلى أحد مراكزها المتخصِّصة العديدة.
- – “لا زالت اختلاجاته متواصلةً كالعادة ولكن مع الانتفاخ في وجهه منذ أسبوعين. أظهرت الفحوصات أنه يعاني الآن من خللٍ إضافيٍّ في الكلى، وهنا طلب أطبَّاء المركز العودة إلى رأيك يا حضرة البروفيسورة” قالت الوالدة متوجّهةً إلى الطَّبيبة ملخّصةً مجريات الأسابيع الأخيرة.
- – “ملفٌّ كهذا لا يمكن التَّعاطي معه عن بعد” قالت الأستاذة والتفتت نحوه” عليك أن تنظِّم دخول مستشفًى له للأسبوع المقبل لكي نجري الفحوصات اللّازمة فنحن لا نعرف بعد تشخيص حالته الجينيّة”
كان يكره القيام بهذه المهام البيروقراطيّة ولكنها من واجبات الأطباء المتمرّنين والزّائرين في مستشفيات فرنسا. كان عليهم القيام شخصيًّا بحجز مواعيد المرضى للدُّخول ولإجراء الفحوصات والتَّواصل مع كافَّة الأقسام لضمان سلاسة العمل مسبقًا.
أمضى مساءه بالقراءة والبحث عن احتمالات تشخيص هذه الحالة، فهناك عنصر مستجدٌّ وهو مرض الكلى، وهو لا شكّ مرتبط بالتَّشخيص الأساسيّ.
أمضى معظم يومه التَّالي على الهاتف متَّصلًا بهذا القسم وبذلك لتأمين دخول المستشفى مع إجراء الفحوصات كافَّةً بعد حجز كلّ المواعيد لها.
وعند جولة العصر سألته رئيسة القسم: “أين كنت طوال اليوم؟ بالكاد لمحتك تجول بين غرف المرضى كعادتك؟”
هو لم يكن بارعًا في موضوع حجز الأسرّة والأدوار لإجراء الصّور والفحوصات. لم يكن قد مضى عليه سوى بضعة أشهرٍ في فرنسا ولم يكن يعلم بمن عليه أن يتّصل، وأين عليه أن يسأل، فأضاع معظم وقته في الاستفسار عوض أن يستغله في القيام بواجباته الطّبّيّة.
– كنت صراحة أرتب دخول مريض ال ” Galloway-Mowat “، أجابها بنوعٍ من التأفُّف
- مريض ماذا؟
انتبه إلى خطئه وأجاب بصوتٍ خافتٍ: “مريض البارحة الذي طلبتِ تحضير دخوله، أنجزته ولكن استغرق ذلك بعض الوقت ولم يبقَ لي سوى بضع دقائق للانتهاء من مرضى الطَّابق، كلّ الملفّات ستكون جاهزةً للجولة كالعادة.”
لم تُعِرْ تعليقه الطَّويل اهتمامًا وأعادت سؤالها:
- مريض ماذا؟
صمت هنيهة قبل أن يعيد على مهل اسم المرض باللّهجة الانكليزيّة Galloway-Mowat لافظًا إيّاه بلكنةٍ بريطانيّة وهو ما كان الفرنسيُّون يأنفون منه
- وكيف وضعت هذا التّشخيص؟ كل الفحوصات التي أجريناها له أتت سلبيَّةً وليس لدينا تفسير لحالته بعد.
- ربما ظهور مضاعفات الكلى يقرّبنا من هذا التّشخيص وفق بعض المقالات التي عثرت عليها مساء أمس.
- – ” Fait voir“، قالت له مشيرة إلى الكومبيوتر في المكتب قبل أن تجلس لتقرأ المقال الذي قام بفتح صفحته أمامها “ولكن هذا هو المرض الذي يعاني منه الطّفل! أحسنت” قالتها بصوت مشِّجع مرفقًا بتربيتةِ استحسانٍ على كتفه.
الإطراء من قِبل رئيس القسم كان له معنى وتشريف، وليس مجرَّد توزيعٍ للكلام، فهي لم تكن تلقي تلك التّعليقات جزافًا ودون مبرِّرٍ أو استحقاق. وأكملت:
- Tu vas écrire ça pour le Congrès
أتى أمر اليوم مباشرةً، تشخيصٌ نادرٌ كهذا لا قيمة له إذا لم يُوَثَّق، كان ذلك أوّل ملصق بحثٍ له يتم قبوله في المؤتمر السَّنويّ.
- عليك أن تكون معنا في اجتماع إعلان المرض لذوي الطّفل، أكملت وهي تعيد قراءة المقال الذي كان فتحه على الحاسوب.
لم يكن إعلان تشخيصٍ يحمل مستقبلًا قاتمًا كهذا المرض بالأمر البسيط، كانت رئيسة القسم تعطي أهمّيَّة كبرًى لوقع الخبر على الأهل، هذه الاجتماعات يجب أن تكون أوّل الأسبوع ليكون الطّبيب حاضرًا للإجابة على أسئلة الأهل في الأيّام التّالية، ولا يجب أن تتمَّ قبل العطلة كي لا يجد الأهل أنفسهم وحيدين مع الإنترنت والكومبيوتر فيقعون فريسة صفحات تمارس اللّغو والحشو الطّبيَّين ولا شأن لها بحقيقة المرض.
لم يَطُل عمر الطّفل كثيرًا بعدها، ورحل بين ذراعي والدته بسلام، وبما أنَّ الجينة المسؤولة عن هذا المرض لم تكن مُكتَشَفَةً بعد كان على الأهل أن يجرّبوا حظهم ثانية. وها هم هنا اليوم.
- إذًا يا دكتور هل ابني مثل أخيه؟ أعادت الوالدة سؤالها.
نظر إلى الطّفل الرّضيع أمامه، كان محيط رأسه صغيرًا بشكلٍ واضحٍ جدًّا. قام بقياسه فأتى الرّقم أقلَّ من نسبة ال٣% مقارنةً مع أقرانه في العمر.
– أرى في ملخص الملفّ أن نوبات الصّرع قد مضى عليها شهر الآن؟ سأل وهو يتصفّح الملفّ ثانيةً.
– كنت أحاول تجاهلها متمنِّيةً اختفاءها من تلقاء نفسها ولكن مع ازديادها لم يعد هناك من مهرب من إجراء الفحوصات.
– علينا أن نبدأ بفحص البول ونرى بعدها.
قالها قبل أن يقفل راجعًا إلى مكتب الرَّئيسة في الطابق السّادس.
نظرت الأستاذة إلى وجهه الشّاحب وعينيه القاتمتين وارتسمت ابتسامة شفقة آسفةٍ على وجهها وسارعته بالقول:
- تذكَّرَتك الوالدة وحَزِنْتَ لأنَّها تذكَّرَتْك بهذا الشّكل، أليس كذلك؟
أومأ برأسه إيجابًا دون أن ينطق بكلمة، فهو اعتاد أن يُستَقبَل بالتِّرحاب والابتسامات حيث حلّ وليس بنظرات التّشاؤم والدّموع.
- – “المغالاة في العاطفة ليست صحّيّة أبدًا في اختصاصنا،” أكملت الأستاذة كلامها، “أنت متطرّفٌ في عاطفتك أكثر من زملائك الشَّرقيّين الّذين سبقوك إلى هذا المركز. تذكّر هذا الطّفل ليس الأوّل ولن يكون الأخير الذي سوف يحمل مرضًا مستعصيًا عليك أن تعلنه للوالدين، وسيربطون حكمًا هذا المرض ومضاعفاته وكلّ ما يصيب الطّفل بك. فالعاطفة البالغة ليست حكرًا على الأطّباء بل بالأكثر لدى المرضى وذويهم Attention de ne pas tomber dans le paternalism
كانت أستاذته على حقّ في نصيحتها. نصيحة كهذه هي نتاج خبرة سنواتٍ مُتَناقَلَةٍ لن يعثر عليها في أيِّ مرجعٍ أو أي كتاب: “حذار الوقوع في سلوكيّات الأبويّة مع المرضى”
هزَّ برأسه هزَّةً تكراريَّة إشارةً للموافقة، ووضع ملفّ المريض على مكتبها واستأذن بالخروج وهو يعيد في ذهنه تفاصيل حديثهما ونصيحتها التي كان يعلم مسبقًا أنه لن يستطيع اتّباعها في معظم الأوقات.