إلا بالصلاة والصوم

إلا بالصلاة والصوم

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان الإنجليزي هنري فوسيلي

فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوكَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».

إلا بالصلاة والصوم” أعاد قراءة الآية الأخيرة قبل أن يغلق إنجيله العتيق ويحاول الخلود إلى النّوم. كان اكتسب تلك العادة منذ حداثته، فيقرأ إصحاحًا كلّ ليلةٍ ليتحضّر به لمواجهة شمس صباح اليوم التّالي بنورها ودفئها ولهيبها. كان لكلّ نصّ رسالته الخاصّة وتعليمه الخاصّ، ولكنّ هذا النص الإنجيليّ كانت له مكانة خاصّة في قلبه وفكره، كونه يحاكي اختصاصه مباشرةً وإن من زاويةٍ عنيفةٍ بعض الشيء. كان النّص يحكي قصّة الشّفاء العجائبيّ لهذا الطّفل الذي كان في قبضة شيطان، أو ما اتّفق أهل تلك الحقبة من الزّمن على تسميته شيطانًا، ولكنّ كلّ الصّفات في النّصّ كانت تشير إلى إصابة الفتى بداء الصّرع. فالمقارنة الوصفيّة بين المرض والشّيطان كانت من المألوفات المتّبعة في زمن النّصّ الإنجيليّ لافتقار اللّغة إلى تعبير علميّ دقيقٍ حينها. كان هذا النّصّ يضعضع أفكاره كلّما يقرؤه. هو لم يكن في جدالٍ حول حدوث المعجزات، هو في النّهاية لبنانيّ ويرى ويعاين ما يفعله القدّيس شربل كلّ يوم فيفلح حيث يعجز الطّبّ ومع مرضاه هو شخصيًّا، هوكان يسلّم بإعجاز الخالق ولكنّ وصف المرض بشيطان كان أمرًا يقضّ سلام أفكاره. فيعود ليهدّئها متذكّرًا أن هذا أسلوب متّى اللّغوي، أما يسوع فقد قال “هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ” ولم يسمّه بالشيطان.

أغمض عينيه على تلك الفكرة المتقلقة، ولم يكن النّوم الذي تلاها بالصّحيّ أو الصّحيح، فاستفاق في اليوم التّالي متذكِّرًا كلّ أحلام تلك اللّيلة، دلالةً على أنّه لم يَنَم كما يجب.

لم يكن لدى مرضى الطّابق من مستعجلات هذا الصّباح، فأكمل مشواره نحو العيادة على مهلٍ محاولًا تجاهل الصّداع الجانبيّ الخفيف النّاتج عن سوء نوم ليلة الأمس.

لم يكن مريضه الأوّل من الّذين يساعدون في تهدئة هذا الصّداع. هو يتابعه منذ سنواتٍ عدّة. منذ أن عاينه للمرّة الأولى وقبل نتائج الفحص الجينيّ كان صريحًا مع الوالدين “إبنكما سيعاني من داء صرعٍ خبيثٍ ولن يستجيب للأدوية بسهولة، نحن أمام درب طويل”

  • كيف عرفت هذا يا دكتور؟ لم تجرِ له بعد أيًّا من الفحوصات، سأله الوالد حينها مندهشًا

شرح لهما بتمهّل الرّابط بين التوشيحات الزّوبعيّة الشّكل المرتسمة على كتفي المريض وظهره، بأشكالها شبه المتوازية الملتفّة، وبين احتمال خلل شبيهٍ في خلايا الدّماغ “فالجلد والنسيج الدّماغيّ يتكوّنان من خليّة هجينةٍ مشتركة وأيّ خلل في أحد السّلالتين قد يظهر في الأخرى”

لم يكن لخبره وقعٌ جميلٌ، وأتى فحص الجينات ليؤكّد تشخيصه. قد جرّب عند هذا الطّفل كلّ أدوية الصّرع المتوافرة في السّوق، ولم يبقَ سوى العلاجات غير التّقليديّة، البطّاريّة كانت خارج البحث لثمنها الباهظ، والطّفل لا زال يعاني من نوبات الصّرع المتتالية، وما هي إلا لحظات وسيدخل الطفل مع أهله غرفة العيادة ليبدأ من نقطة صفرٍ جديدةٍ صراعَه مع حالة هذا المريض.

إلا بالصلاة والصوم” كانت لا تزال عالقةً بباله منذ مساء الأمس، تمتمها على مهلٍ قبل أن يذرع البهو إلى قاعة الانتظار ويستقبل العائلة ويرافقهم إلى الغرفة.

كانوا قد اعتادوا اختلاجات الطّفل المتكرّرة، أعادت الوالدة وصف معاناة الطّفل بالتّفاصيل التي سمعها منها عبر الهاتف منذ يومين، كان يؤلِمُه أن يكون النّاطق بإسم علمٍ يُعْلِنُ عجزه أمام مرضٍ ما، ولكنّ تلك كانت الحقيقة، فما لكلّ الأمراض شفاء.

“صرنا بخمس أدوية سوا يا دكتور! قديش بيحمل جسم وليحمل؟ صارت عم تجيه “القبضة” شي ٢٠ مرة باليوم، صحيح مجرّد ثوانٍ ولكنّها تفقده توازنه ويقع أرضًا ولولا الخوذة الواقية …” وصمتت الوالدة وقد خنقتها العبرات.

ركّز نظره فيها وفتح عينيه منصتًا إلى ما بعد كلامها وكانّها المرّة الأولى التي يسمع فيها تلك الكلمة. معظم مرضاه من سكان المدينة كانوا يستعملون عبارة “كريزة” أو”هزّة” لوصف الاختلاج، ولكنّ أهل القرى كانوا لا زالوا يستعملون كلمة “قبضة” لطالما استهجن هذا التّعبير، لا يدري لماذا أدرك اليوم أن هذا التّعبير هو التّعريب الأصحّ للكلمة الإنكليزيّة seizure ، وهي الكلمة المستعملة حتّى اليوم في النّصوص العلميّة التي تصف هذا المرض.كلمة مشتقّة من فعل to seize  أي أن يَقْبِضَ.

للمرّة الأولى لاحظ أنّ آداب اللغة العلميّة لا زالت، وبعد ألفيّتين من الزّمن، تنظر إلى داء الصرع على أنه شيء ما يقبض على الإنسان جسدًا وروحًا فيفقده السّيطرة على مقدّراته الفكرية والجسديّة. لا تسمّيه مباشرةً بالشَّيطان ولكنَّها تشير إلى شيء ما قبض عليه. ها هو أمام حقيقة أنّ بعد ألفي عام لا زال العلم ينظر إلى هذا المرض على أنه شيطانٌ لغويًّا وتعبيريًا.

  • “كنت شرحت لك سابقًا صعوبة الحالة يا سيدتي، فابنك يحمل خللًا جينيًّا لم يتوصَّل الطِّبُّ بعد إلى تعديله”.. قال محاولًا بفشلٍ تهدئة الوالدة.
  • –       ” وهل سيبقى هكذا طوال عمره يا دكتور؟ لم يعد هناك من حل سوى البطّارية أو الصّلاة؟” أجابته بنوعٍ من سخرية اليأس
  • –       “بالصّلاة و… بالصّوم” قالها بتمهّل وهو يراقب بدقّة تعابير وجه السّيّدة بينما كان دماغه يعيد تكرار آية البارحة بإصرار
  • –       “ما بك يا دكتور؟ هل تعني يا دكتور أن ابني عليه أن يصوم؟ في كل الاديان الصّوم حرام على اجساد المرضى وليس فريضةً” سارع الوالد بالقول وقد فاجأه تعليق الطّبيب غير العلميّ وهو ما ليس من عاداته.
  • –       “هناك حلّ آخر ولكن تطبيقه أصعب.” أعاد القول وهو ينتبه إلى اختيار عباراته هذه المرّة، “قد يكون الحلّ في الحمية الكيتونية”

قابله الوالدان بنظرتين فارغتين متسائلتين فأكمل:

  • تعلمان سعر البطّارية الباهظ وعدم استطاعة تأمينه حاليًّا، ولا نستطيع أن نقف متفرّجين أمام الطّفل وهو يعاني، والحمية الكيتونية متاحة عبر نظامٍ غذائيٍّ وعبر الحليب الخاصّ الذي تؤمّنه الوزارة مجَّانًا.
  • –       “نعم قرأت شيئًا من هذا على الفايسبوك” قالت الوالدة بعد صمتٍ وتفكيرٍ قصيرين قبل أن تردف بقلق، “أليست تلك حميةً للتّنحيف؟ مِنْ دون شِي إبني مِشْ عَمْ يِنْصَحْ يا دكتور، ما بَدّي يْدُوبْ” 

ابتلع لعابه بصعوبةٍ عند سماعه هذا الجواب، فطائفة الّذين يلجؤون إلى العلاجات الطّبّيّة عبر قراءة الفايسبوك وصفحات الإنترنت هم من الطّوائف التي تتبع تعاليم غير قويمة سلوكيًّا بحسب رأيه … ومن الذين قد يعسر جدا تقويمهم. 

  • سيدتي، هذه الحمية تحمل اسم حمية لكونها علاجًا بنظامٍ غذائيٍّ يقوم مقام الدواء، وليست مجرد اختيار لأنواع طعامٍ معيَّنةٍ. بل هي كمّيّة طعامٍ محدّدة المحتويات والمكوّنات ويجب على ابنك تناولها دون زيادة أ ونقصان ودون خلل في النّسب.
  • يعني تريد أن تعالج الكهرباء عند ابني بنوع من الرّجيم؟ كيف يكون ذلك؟ سأل الوالد مندهشًا.
  • تعلمان أن التغذية السّليمة المتعارف عليها تقوم على إعطاء الجسم الطّعام مُحتَويًا بشكلٍ شبه متساوٍ على البروتينات والنّشويات والدّهون وهذه مركّبات معظم وجباتنا اليومية الصّحيّة

أومأت الوالدة برأسها إيجابًا فتابع كلامه. 

  • أما في الحمية الكيتونيّة فسوف نقوم بإعطاء ابنكما غذاء مركَّبًا من ٨٠ % من الدُّهون و٢٠ % من البروتينات والنَّشويات وذلك عن طريق مستحضر تجاريٍّ تؤمِّنه وزارة الصِّحَّة مجَّانًا مع وجبات طعام محضَّرةٍ في البيت ولكن وفق معايير صارمةٍ تحدِّدها لك أخصائيَّة التَّغذية
  • –        وهذا سيفيد ابني بأيّة طريقةٍ؟ سألت الوالدة من جديد
  • سيّدتي، تغيير نسبة المكونات تضع جسد ابنك في حالةٍ فيزيولوجيَّةٍ تشبه حالة الصَّوم تمامًا، ولكن دون حرمانه الطّعام، مما يلزم جسده بإفراز موادٍّ عضويَّةٍ مثل الأسيتون وسواه كما يحدث في أجساد الصّائمين، وهي تشبه كيميائيًّا تكوين الأدوية المضادّة للصَّرع بل وأقوى منها أحيانًا. وفي بعض الحالات قد نستطيع عبر هذه الحمية إيقاف معظم الأدوية وربما الاستغناء عن البطَّاريَّة.
  • –       “معقول؟ إلى هذا الحدّ؟” سألت الوالدة بدهشةٍ، “إذا كان هذا العلاج فعَّالًا إلى هذا الحدّ لماذا لا تعطونه للجميع؟ ولماذا لم تعطِهِ لابني سابقًا؟”
  • هو ليس بالعلاج السّهل والالتزام به أصعب من ناحية المريض وذويه … يعني بتفصيل آخر، إبنك لن يستطيع أن يطلب ما ليس موجودًا في معادلته الغذائية من سكاكر وحلويَّات ومشتهيات وسواها لئلا تختلَّ نسب المكوِّنات، والحمية عليك تحضيرها بمقادير محدّدةٍ بالغرامات. كما عليه أن يخضع لفحوصات دم دورية لتفادي مضاعفات الحمية.
  • “بدّي زِيْن كل شغلة يعني، وكلّ وجبة مشروع وما فيه ياكل شي بيحبّه”، قالت بهدوء حزين، “يعني لَبَكة معقّدة”
  • –        صحيح هي معقّدة ولكن ستكون هناك أخصائيَّة تغذية متخصِّصة في الأمراض الاستقلابية ترافقك وترشدك إلى التّحضير السّليم لهذه الحمية. ما رأيكما؟
  • يعني “صوموا تصحّوا”، قال الوالد مبتسمًا.
  • إذا يمكن أن تنفع لا يهم يا دكتور، المهمّ صحّة إبني، ماذا عليَّ أن أفعل؟ سألت الوالدة بعد برهةٍ من التّفكير. 

كان الطّفل لا زال أمامه، في حضن والدته ينتظر معجزةً ليُشفى. كان يدرك أنّه لا يستطيع أن يعطيه علاجًا غير الدّواء وإن تعدّدت الأشكال، فليس في الطّبّ إيمانٌ كافٍ ليجترح المعجزات.

نظر إلى الوالدين وإلى الطّفل ثانيةً ثمّ إلى دفتر الوصفات الطّبّيّة المفتوح أمامه، وبدأ بكتابة لائحة الأدوية الطويلة وكيفيّة بداية الحمية الكيتونية، كثرت الكلمات وتتالت الأسطر ومع كل سطر جديد كان يعي أكثر وأكثر أن إيمانه أقل بكثير من حبة الخردل، قليلٌ ولكنّه موجود.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.