كنزٌ في قرطبة

كنزٌ في قرطبة

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان السعودي عبد الله حماس

كان يريد اقتناص كل ثانية في تلك المدينة الجميلة، لاكتشاف ما تحتويه حناياها من كنوزٍ تاريخيَّةٍ قد تعني له أكثر بكثير مما تعنيه لسكّان هذه الأرض الأصليين.

ذلك كان واضحًا من نواحٍ عدَّة. فرغم أنَّ هذه القصور الأثريَّة كانت المجذب السِّياحيَّ الذي تعتاش منه كل هذه المدينة النَّابضة بالحياة، إلَّا أنَّ أثر وجود هذه القصور كان ثقيلًا على صدور الباعة والتُّجَّار. ففي روما أو في باريس مثلًا، كان يجد كلَّ حذفورٍ من مشاهد المدينة وقد حوَّلوه إلى طوطمٍ مزخرفٍ يبيعونه بفخرٍ للسُّوَّاح.

أما هنا في قرطبة، فكلُّ ما كان عربيَّ السِّحنة، واضح المعالم، لم يكن يحتلُّ مكانًا على رفٍّ تجاريٍّ باستثناء أصنام ابن ميمون، الذي كانوا يطلقون عليه اسمه اللاتينيّ ميمونيدس. 

كان للجولة في “المزكيتا” أثرها العميق على فكره الذي عشق الموشَّحات الأندلسيّة، خصوصًا لما تحتويه من الموسيقى السُّريانيّة في حناياها التّي طواها الزّمان إلى أن لوّنها الرّحبانيَّان بلونٍ موسيقيٍّ صحيحٍ، وأخرجاها من سراديب عصر الإنحطاط، الذي حاول طمس معالم بهائها على مدى أربعة قرون و لازال في بعض بقاع الإمتداد التَّاريخيّ.

كان قد بقي لديه نصف النّهار ليستكشف الباقي من كنوز هذه المدينة، الرائعة فتوجّه إلى مكتب السّياحة الرّسمي عند ناصية الشّارع ليستدلَّ و يستعلم.

كانت جلُّ نصائح الموظَّفة تقتصر على المسجد الذي غادره للتَّو و المطاعم والمقاهي ودور التسلية. جميعها كانت ترفيهات ليليَّة فغادر المكتب شاكرًا وقرّر متابعة اكتشاف المدينة العتيقة سيرًا على الأقدام.

و لم يخْطُ بضع خطواتٍ إلى اليمين، إلّا وطالعه برج مراقبة شامخٍ يطلُّ على المدينة، و يصله بها جسر حجريٌّ قديمٌ مرمَّمٌ، بدا واضحًا أنه هو أيضًا من بقايا سور المدينة القديم.

كانت منطقةً للمشاة حصرًا ، و كان السُّواح يتنزَّهون على مهلٍ تحت شمس إيبيريا السَّاطعة ينطقون بكلّ لغةٍ و لكنةٍ و كأنّهم خرجون من برج بابل.

كانت اليافطة عند أوَّل الجسر تشير  “نحو برج كالاهورا” فتابع متسائلًا ماذا عند الطّرف الآخر من الجسر العابر فوق نهر غوادالغيفير كما هو معروف اليوم أم نهر الوادي الكبير كمّا سمّاه العرب.

توجَّه إلى مدخل البرج طمعًا بالوصول إلى القمَّة، ومشاهدة المدينة من الأعلى و التقاط بعض الصّور التّذكاريّة، ولم يتوقّع أبدًا أن يجد عند مدخل البرج مكتب استقبال لزيارة المتحف الخلاب الذي كان البرج يحتويه.

وكان يتساءل مندهشًا كيف أهملت موظَّفة مكتب السِّياحة ذكر هذا المتحف الذي يبعد خطوات عنها. ولكنَّه عندما رأى اللَّوحة فوق شبَّاك التَّذاكر، عرف أن الموظَّفة لم تكن مُهْمِلةً، كانت بكلِّ بساطةٍ إنسانةً عنصريَّة ربّما، أو ربّما مجرّد مواطنةٍ لا تنسى تفاصيل التّاريخ الدّقيقة. 

عرف ذلك عندما طالعته لوحة الإستقبال”أهلا بكم في مؤسسة روجيه غارودي”. 

كان اسم المؤسَّسة كافي الدَّلالة ليعلم لماذا تجاهلت ذكره الموظَّفة، فحادثة هذا المؤلف الفرنسيّ لا زالت حيَّة في التَّاريخ المعاصر بما فيها من هجومٍ إعلاميٍّ مبرمجٍ على هذا المؤلّف وصولًا إلى وقوف أبو الفقراء “الأبي پيير” بجانبه دفاعًا عنه و عن الحريِّة الدِّينيَّة ضدَّ الهجمة العنصريَّة عليه في الغرب، و طبعًا مع صمت الدُّول العربيَّة الذي اعتاد أن يشابه صمت العبيد في القبور.

كان البرج العتيق يُظهر تناقض معالم هذه المنطقة مع وجود آثارٍ للعرب على أرضٍ احتلّوها بحدّ السيف و طُرِدوا منها بالطريقة عينها. 

فخارج المبنى يشبه قلاع أوروبّا في القرون الوسطى بهندسته الرّومتايّة و جمود تضاريسه، أمّا داخل البرج فقد ازدان بألوان الشّرق و تحفه التي جعلت منه في ذلك الزمان محجّة العلماء و المثقّفين. 

في الغرفة الأولى كان هناك السّجاد العجميّ الذي يزيّن الحيطان و غرفة فيها أصنام رجالات ذلك العصر المفكّرين من الدّيانات الثَّلاث في حضرة مجسّم عبد الرّحمن الغافقيّ الذي عجّ بلاطه بكلّ أنواع العلوم و المعارف و الآداب قبل أن تنطفئ شعلته على ضفاف نهر اللّوار. 

كان يبدو تمثاله مهيبًا شبه ناطقٍ يعيد حضرة ذلك الزّمان الأسطوريّ الذي يقترن بأنغام موشّحات الأندلس. 

كانت حيطان الغرفة تزدان بسجّادتين عجميَّتين إحداهما سوداء أما الأخر فصفراء و برتقاليَّة، تحت سقف بُني حسب العقد البيزنطيّ يتوسَّط قبَّة عقده شكل الصَّليب.

كانت الغرفتان التَّاليتان رتيبتا المحتوى القصصيّ الذي يروي مشهدًا أندلسيًّا متوقّعًا، من اللوحات الزيتية إلى الآنية الفضّيَّة على الأرض، و أجران الفخّار، مع مجسم لقصر الحمراء وسط الغرفة، والعديد من الآلات الموسيقيَّة الأندلسيَّة، مع مُستَنْسَخٍ لعود زرياب و وتره الاضافيّ. و كاد يقع فريسة الملل إلى أن خطى عتبة الغرفة الثالثة. 

هناك رأى خارطة العالم القديم تزيِّن حائط الغرفة، مع كتابة عربية تعرف عن كل دول محيط المتوسّط، وأمامها صندوقان زجاجيَّان ضخمان يحتويان أربع علبٍ مبطَّنة بقماشٍ مخمليٍّ أحمرَ، كالذي يبطِّن علب المجوهرات ولكن الذي داخل هذه العلب وإن كان ذهبيَّ اللّون فهو لم يكن من المجوهرات بل أغلى منها بكثير، أمامه كان الكنز العربيُّ الذي يفوق كنز علاء الدّين قيمةً بأشواط.

أخذ ينظر بفرحٍ و دهشةٍ وعيناه لا ترتويان من منظر الأدوات الجراحيَّة الذَّهبيَّة و النُّحاسيَّة المعروضة أمامه.

 أدوات استعملها أطبَّاء الأندلس منذ ٦٠٠ عام في عمليَّاتهم الجراحيَّة.

 هو كان قرأ عنها مطوَّلًا ولكنه لم ير أيًّا منها بأمِّ العين.

كان أمام أكبر مجموعةٍ من تلك الحقبة، تمَّ إنقاذها من براثن النِّسيان أو التَّناسي المتعمَّد.

كانت جميعها مصنوعة من الذَّهب والنُّحاس، لسهولة تطهيرهما بالنَّار، ما يدلُّ على إدراكٍ ولو أوَّليٍّ بعلم الجراثيم.

كانت هناك مباضعُ و مشارطُ من كافَّة الأشكال والأحجام. كلها دقيقة الأطراف مسنَّنتُها مما يسمح بمعالجة أصغر الأعضاء وصولًا إلى العين والشَّرايين.

 كان هناك مشارط بنصلتين كالَّتي لازالت تستعمل اليوم، بل و تشبه تمامًا الأدوات التّي تدرّب على استخدامها خلال سنوات التّدريب في الطّبّ العامّ.

وكانت هناك الوصلة المعدنيَّة المستخدمة في تثبيت الكسر في العظام، وكانت هناك صنَّارة تُستخدم في استئصال الأوردة و الشَّرايين المتورِّمة و الدَّوالي، كما أنه كان هناك مبضعان خاصَّان باستئصال الجنين، و هو ما كان مستغربًا بالنِّسبة لتلك الحقبة. 

أما الصُّندوق التَّالي، فكان يحتوي على الأدوات الّتي ليس لها طرفٌ حادٌّ ولكنَّها تُستخدم في مجالاتٍ طبِّيَّة أخرى. فهناك جهاز  كيِّ نواسير العين وجهاز  كيِّ الأضراس و بجانبه ثلاثة اجهزة مختلفة لجراحة الفك وتحته جهاز مستدير الرَّأس مع قرنين مستديري الأطراف و تحته شرح يفيد أنه لجراحة المعدة.

 وعند الطرف الأسفل للعلبة بدا جهازٌ رأسه كالمفتاح كان يستعمل لأمراض الرئة و علاج السُّعال.

وعند الزاوية المُقابِلة، جهازٌ ذو رأسين مستديرين فارِغَي الوسط، غرضه علاج الأورام.

 أمّا العلبة التَّالية، فمحتوياتها إثنا عشر جهازًا لعلاج العين و الأنف.

 و تتالت التحف في الصَّناديق الأخرى، من أجهزة جراحة الشَّرايين والعين، و حتى جراحة الجلد. و كان معظمها يتمحور حول نظريَّة العلاج عبر الكيِّ و الإستئصال.

كان تاريخ الطِّبِّ القديم ماثلًا أمامه، سجين بضعة صناديق في متحفٍ على أرضٍ لم تَعُد تتكلَّم لغة مخترعي هذه الأدوات. كان أمام فصل من تاريخ الطّبّ أهملت ذكره كلّ المراجع التّي درس فيها على مرّ الأعوام السّابقة، فالطّبّ الحديث سريع التّطوّر و الإرتقاء و قلائل من دارسيه يهمّهم اسكتشاف مسيرة هذا التّطوّر.

كم كان يحزنه أنه لم يكم يعاين هذه الأجهزة في مكانها الصّحيح.

كان الصوت في سمّاعتي الجهاز الّذي أعطته ايَّاه موظّفة الإستقبال يستحثُّه لإكمال جولته في الغرفة الّتي كانت تحتوي على مجسَّماتٍ و تُحَفًا تُظهر أنظمة الرَّيِّ المائيِّ المتطوِّرة الّتي ابتكرها العرب حينها، و العديد من الأدوات الفلكيَّة والخرائط الدَّقيقة.

مرَّ عليها مرورًا سريعًا وصولًا إلى سطح البرج، وتفكيره لا زال عالقًا عند ذانيك الصُّندوقين، هناك، حيث وقف تاريخ العلوم جامدًا في حضارة ما، و انعطف انعطافةً جذريَّةً نحو حضارةٍ أخرى قرَّرت أن تنسى أسماء أجدادها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.