د. منى ياقوت
اللوحة: الفنان الإنجليزي جورج فردريك واتس
أخذ يتلفت حوله يمنة ويسرة، كان يعلم أن نجاح مهمته يتوقف على مدى حذره، وإن رآه أحد سيصبح في خبر كان، مجبر هو أن يتصرف بحرص شديد، يجوب المكان بعيني صقر.
خطا خطوة واحدة صغيرة بقدمه اليمنى، ثم أعاد الالتفات إلى الممر على يمينه والآخر إلى يساره؛ ليتأكد من خلوهما من البشر، في إضاءة خافتة تحرك قدمًا بخطوات ثابتة في الممر المواجه، تحديدًا إلى الغرفة رقم “55”، الواقعة في نهايته إلى اليمين، توقف على بعد خطوات من الباب ناظرًا بثقة إلى الرجل الجالس فوق أحد مقاعد المشفى، يرتدي البذلة السوداء المميزة لرجال الشرطة واضعًا إحدى ساقيه فوق الأخرى، وبيده كوب من الشاي الثقيل يرتشفه في بطء، إلى جواره بندقية عتيقة تستند إلى الحائط في سكون.
حاول أن يخفي ارتجافة أصابعه المختفية داخل زوج من القفازات الطبية، بينما يعدل من وضع الكمامة على وجهه؛ لتخفي مساحة أكبر من ملامحه، واختفت عيناه خلف زوج من النظارات السميكة، وبادر الشرطي قائلًا: إنه موعد متابعة المريضة…
أشار الشرطي بيده في تراخٍ نحو الباب، فمد يده محركًا المقبض بقوة، دخل الغرفة متحركًا بخطوات بطيئة نحو السرير الواقع في منتصفها، فوقه ترقد سيدة تبدو في منتصف الثلاثينات تحيط بوجهها الضمادات، إلى جوارها جهاز طبي يصدر صوتًا منتظمًا ينمّ عن انتظام الوظائف الحيوية لجسدها الساكن، على الجانب الآخر زجاجة أو أكثر من المحاليل الوريدية تغذي جسدها الهزيل.
كانت مريضة تحتاج الدعاء، توحي بالشفقة، لكنه رآها شيطانًا مريدًا يغفو لفترة، بعدها يستعيد نشاطه فيعود ليقضي على الأخضر واليابس في حياة كل من يعرف.
واصل اقترابه حتى صار على بعد خطوة منها، نظر نحو الباب الذي اجتازه للتو، ثم إلى ساعة معصمه؛ ليطمئن أن لديه وقتًا كافيًا، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يبدأ تنفيذ مهمته..
*******
تساءل في نفسه ألف مرة إن كان الذنب ذنبه من البداية، أو أنه بيده قد أشعل فتيل النار التي أتت على حياته حتى صارت رمادًا، لقد أحبها بشدة، ومنحها ثقته قبل اسمه، لا لأنه أحمق، بل لأنه لمس صدق مشاعرها منذ لقائهما الأول، ترى هل كان واهمًا؟
أم أنه تزوج شيطانة، حسبها ملاكًا؟
لقد تقبل عيوبها، كما صارحها منذ أن صرح بمشاعره أن له طبعًا حادًا بعض الشيء، لكن قلبه يدفعه إليها دفعًا، أخبرها كم يحاول أن يكون إنسانًا أفضل، وقبلته وصارت له وصار لها.
كانت سعيدة به ومعه، وتوّجت سعادتهما بطفلة بهية الطلعة حملت من ملامحه وملامحها، لم تتذمر يومًا من مساعدته داخل المنزل في كل ما يخصه، أو خارجه في مكتب المحاسبات الذي يديره مناصفة مع شريكه وصديق عمره الوحيد.
تباهى كثيرًا أمام نفسه والمقربين إليهم بنعمة وجودها: تلك الزوجة المحبة التي تشد أزره، وتنوب عنه في أي شيء خاصة عمله، وفي الفترة الأخيرة من انقطاعه عنه لأزمة صحية مفاجئة ألزمته الفراش كانت تذهب يوميًا إلى عمله، وتأتيه بما يهم من أعمال واجبة التنفيذ، ثم تعود بها إلى المنزل، وفي اليوم التالي تعيدها إلى المكتب كاملة، وهكذا……
لم تملّ أو تتذمر، ولم يخطر له أن حرصها الزائف على إتمام عمله، كان حجة واهية لهدف آخر لم يخطر بباله.
حتى اطمأن من طبيبه أن وضعه الصحي صار أفضل كثيرًا، يمكنه الخروج للعمل، فلم يخبرها بل أراد أن يفاجئها بوجوده ويشكرها بهدية ثمينة تقديرًا لجميلها، وهو يفكر أن أموال الدنيا لا تكفيها، فانتظر حتى انصرفت في موعدها اليومي الذي كانت تحرص عليه بانتظام، ثم غادر المنزل بعد دقائق، لكن فاجأه أنه ما زالت أمام المنزل تتلفت يمينًا ويسارًا في ترقب ولهفة.
انتابته الدهشة أنها لم تستقل سيارته كما تفعل يوميًا، فزاد عرفانه بصنيعها، وقبل أن يتحرك نحوها وصلت سيارة مسرعة، توقفت أمامها بصوت صاخب، وبرز من نافذة زجاجها الأمامي وجه سائقها الذي يعرفه جيدًا، كان وجه شريكه.
*******
أخذ يجفف دموعه المنهمرة بأكمام بالطو الطبيب الذي يرتديه، وهو يزيل عنها أقطاب جهاز القلب بعد أن نزع قابس الكهرباء، سكن للحظات كي يتحكم في توتره، بينما يذكر جنونه لحظة رآها تستقل سيارة رفيقها السريّ بلهفة، تقفز إلى المقعد المجاور له؛ لتنطلق السيارة باثنين لم يمنحهما سوى ثقته، ومودته.
حث الخطى نحو سيارته، أيقن من الغبار الذي يغطيها ومحركها الذي أصدر صوتًا عاليًا حين أدارها، أنها معطلة منذ زمن، وانطلق بها خلف العاشقين بسرعة جنونية، حتى لاحا أمام ناظريه، تبين أنهما يسلكان طريقًا غير المؤدي إلى عمله.
******
لم يستطع أن يدلي بأقوال كثيرة في قسم الشرطة حول الحادث الذي أودى بحياة شريكه، انتقلت زوجته على إثره إلى المشفى بين الحياة والموت، أو يمنح سببًا كافيًا لوجودهما معًا.
تعاطف الشرطي معه إلى حد كبير، أطلق سراحه كي يطمئن على زوجته، موصيًا أن يحادثه فورًا إن تذكر ما يهم، فقد خالطه شك أن الحادث مدبر لا حادث سيارة عادي.
********
أخذ يفصل المحاليل الوريدية من يدها واحدًا تلو الآخر، هو ينظر إليها بحنين، يذكر تلك اللحظة التي انفجرت فيها السيارة أمام عينيه، حين تبعهما حتى وصلا إلى طريق يعرفه جيدًا، لم يتردد لحظة في الدفع بهما إلى جانب منحدر منه، فانقلبت السيارة براكبيها عدة مرات، ثم دار بسيارته عائدًا إلى المنزل، جلس هادئًا ينتظر خبر وفاتها.
******
تأمل في وجهها، بينما دمها ينساب إلى الأرض، همس لها:
“لم أظن أن تتشبثي بالحياة، أو أن تفعلي ما فعلتِ، …”، قبّل جبينها في هدوء، ونظر إلى الغرفة نظرة سريعة، ثم أشار بيده إلى جسدها الساكن، وروحها الراحلة، مكملًا في خفوت: ” وداعًا يا……. يا حبيبتي”، وأغلق الباب خلفه بهدوء، ورحل.