تابلوه

تابلوه

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر

تخدعني الظروف أحيانًا، كما حدث منذ سويعات، إذ خرجت فوجدت الطقس رائقًا، حين لفحت وجهي نسمة باردة تطاردها أخرى دافئة، هواء نقيّ، يكاد يخلو الشارع من المارة والسيارات، اقتنصت الفرصة وملأت صدري بالهواء، كتمته لثوان، ثم أخرجته زفيرًا على مُكث وعيناي مغمضتان، أستعيد ذكرى سعيدة من أعماقي وأطرد عن بالي أخريات أشتبه في أمرهن.

على أن الخداع بدأ سريعًا، حينما نظرت لعدادات سيارتي، وجدت “لمبة” الوقود تومض، لم تكن ترغب في إلقاء تحية الصباح، بل لأمر آخر، فتداركت أنّي لم أراجع وقود سيارتي منذ فترة، نسيان بضغط الحوادث اليومية.

لَوَيْتُ عنق دابتي، لأبحث عن أقرب “بنزينة”، فلمّا اقتربت من واحدة، على مدخلها أشار ليّ العامل بيده: أن الصيانة واجبة الآن، فبحثت عن أخرى تبعد قليلًا، غير أنني وجدت أمامها خناقة شرسة بين رجل وامرأة.

والناس يلتفّون من حولهما. منهم من يضرب كفًّا بكف، يدّعي الأسف بينما عيناه تتلصّصان على مفاتن المرأة، آخر يجهر بأن الرجل تحرّش بالمرأة علنًا، وآخر يعارضه: بل هي زوجته، الخناقة على مصروف البيت، أردف الرجل وهو يمصمص شفتيه ويمطّهما: أمر رائج الآن، ثم شيعّ الجميع بحكمة: اللهم أحسن خِتَامنا، بعدها ألقى على طرفيّ الشجار نظرة ممتعضة، لعلّي لمحته يتفل خفية عليهما وهو يغادر المشهد.

ثم انفضّ الجَمع، بعد أن تأبَّطت المراة يمين زوجها وألقت برأسها على كتفه وبعينيها نظرة حالمة، كانت قسمات وجهها تموج برغبة علمت ببودارها حين لمحت كوع رفيقها تداعب ثديها الأيسر.

عندما غابا عن عينيّ، عُدت إلى رشدي وعربتي ووقودي الذي أوشك على النفاد، قلت لنفسي: هو يوم “عنب” يبدو من أوله. الحكمة تقتضي أن أتّقي شرّه وأعود للبيت.

 ولمّا كنت بمنتصف المسافة، فقد وَازنت بين أمرين ثم عزمتُ أن أُكمل الطريق على قدميّ، بعد أن أُودِعْ السيارة “جراج” قريب من عملي.

 قلت: هناك حتمًا سأجد من يتولّى أمرها، فالحياة لا تخلو من شَهْم يبادر بمد يد العون لامرأة حبّذا لو كانت جميلة، فالرجال يسيل لعابهم أمام الجَمَال، يتخلّون عن حذرهم، تسيل رجولتهم ويُصبح كلّ “عنترة العبسي” أو فارس من العصور الوسطى.

فلمّا رجعت القهقرى، وجدتني من جديد في “زنقة “، بين بضع سيارات، أحاطت بي، وبين سائقيها تنشب خناقة حامية الوطيس، الكل يردد عبارة واحدة وحيدة: “انت عارف انت بتكلم مين؟!”

مَضَت ساعة والعراك يحتدم، يتطور من سباب لفظي إلى تطاول بالأيدي والأرجل، يستصحب ذلك غبار يعلو لعنان السماء.انشغلت عنهم بالبحث بحقيبتي، أسفل كرسي القيادة، حتى وجدت ضالتي، علبة كبيرة تحوي أدوات تجميل، عبثت داخلها بأصابعي حتى أخرجت مرآة صغيرة لها مقبض وردي اللون، وقلم شفاه أحمر، سويّت خصلة شعر تطل بجرأة خارج طرحة حجابي، ثم أعدت طلاء شفتيّ، مع بعض زخات من عطر مُحبب إليّ. 

 أَعَدتُ علبة الزينة لمكانها، أغلقت زجاج سيارتي فانكتم الصراخ إلى حد ما. كنت أشهد الواقعة من مكاني، أتعجّب لهؤلاء القوم، أردّدُ لحنًا لأغنية تسلل برفقِ لأذني من مشغّل الموسيقى ل “عمرو دياب”.

بدا المشهد كفيلم “سينمائي” بيني وبينه مسافة لا أتجاوزها، عالم خِلْتَه افتراضيًا، أو لربما كان واقعًا حقًا!. جادلت نفسي لأدرأ عنها عبء التفكير: لا يعنيني ما يحدث! فلديّ ما يكفي.

 ثم رفعت صوت الموسيقى قليلًا، أغمضت عيني بعد أن أرَحْت رأسي على مسند مقعدي، غبتُ في عالم لا أرغب في غيره، على أنني أحسَسَت بلمحة أسى تتسلل لقلبي، لكني وأدتُ الصراع النفسي مبكرًّا بصوت عال: ماذا أفعل؟ على فرض قدرتي على الفعل!

 ثم تلاشى كل هذا فجأة وخضع الجميع لصوت أجش طغى على الكل، لبائع يقف خلف عربة “فول” خشبية، كان يقف على بضع قوالب أسمنتية، يسمو في وقفته على الزبائن التي تتتحلق حوله.

 منهم من يمضغ في صمت، آخر يلوك بصوت لكنه لاهِ عمّن حوله، وثالث يجأر بشكوى من غلاء الأسعار ويُقسم برغيف خبز بيده والناس لا تهتم لأمره، أنه بات وأهله دون عشاء بالأمس. الكل في شُغل بشئونهم، عدا نظرة شاردة من أحدهم ألقاها إليّ كأنما يستغرب وجودي بالقُرب منهم.

تجاهلت نظرته، ثم ركنت سيارتي لصق الرصيف، أطفأتها، هبطتُ ببطئ، طَوَيتُ مرآتها الجانبية، ثم مشيت على مهل، بعد أن أزلت بضع شوائب علقت بحذائي، رحتُ أتفحص وجوه الخلق من خلف نظارتي السوداء، تتنازعني رغبتان: الفرار للعمل، فالوقت أوشك، أو أن ألقي نفسي وسط الخضم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.