ليزا زغلول
اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله
هذا العالم لم يكن لائقا بهشاشتي لذا كان على ارتداء قناع البرود، مؤلمة هي الوحدة كثيرا حينما يختفي نصفك الآخر من الوجود، حاولت جاهدة طي تلك الصفحات ولكنها اشبه بجرح غائر يأبي ان يندمل، لقد قاومت كثيرا لكي لا أصل إلي ما عليه أنا الآن…..
أنا ثراء، ملامحي هادئة، بشرتي قمحية عيناي اكتسبتا اللون الأزرق من والدي، وبنيتي الجسدية متناسقة، أبلغ من العمر ٢٥ عاما لدي أخ توأم لكنه توفي منذ عدة سنوات.
يختلف عملي كثيرا عن مجال دراستي، كل ما أردته أن أمتلك كيانا شخصيا مستقلا بعيدا عن نفوذ والدي كعمده لتلك القرية، أعود في بعض الأحيان متأخرة فعملي كمصور شخصي غير مرتبط بساعات محددة.
لقد اختفت ملامح تلك الطريق الترابية مع أول أمطار هذا العام، اصطف على جانبي الطريق الكثير من العربات التي أطلقت أبواقها معلنة عن ضجر من فيها واستيائهم.
هذا المشروع بات يضفي المزيد من الشقاء على حياة اهل تلك القرية، هم يقومون بإزالة بعض الابنية السكنية لاستكمال الطريق الجديد الذي سيساعد على مرور معدات البناء الثقيلة عليه، وفي أحد الليالي أثناء عودتي وجدت العمل بذلك الطريق بالفعل أوشك على الانتهاء
وتلك المعدات التي أحضروها للبناء ها هي قابعه تنتظر انتهائهم لتمر إلي داخل قريتنا.
يا الله! متي تنتهي تلك الجلبة لننعم بالراحة مجددا، لم أكن أدرك أن هذا الصخب قد بدأ ولا نهاية له، لقد بدأت أعمال الحفر تمهيدا لعمل أثاث لتلك المدرسة، وأخيرا سيحصل هؤلاء الأطفال البائسين على حقهم بالتعليم بدلا من اللهو في شوارع القرية أو تحمل أعباء السفر للمدينة يوميا للدراسة.
اليوم ١٠ ديسمبر ها انا اعود أدراجي لتلك القرية، لقد تمكنت بالكاد من ضغط أعمالي لأحصل على بضعة ايام كاستراحة، فالتواجد على مثل هذا الطريق ذهابا وإيابا يوميا متعب ومرهق بشدة.
كان هناك جمع غفير من رجال القرية ملتفون حول شيء ما، ترجلت من السيارة واقتربت قليلا لأسأل أحد الرجال عما يحدث ليخبرني بأن تلك الآلة قد كسرت مجددا أثناء عملية الحفر، يلتفت أحدهم ليضيف قائلا أن العمدة (والدي) كان هنا ولكنه ذهب مع بعض الرجال إلي مركز الشرطة لتقديم شكوي لاشتباههم بأن الامر بفعل فاعل لأنها تلفت ثلاث مرات، ترددت وانا أسأله بمن يشتبهون ليخبرني بأنهم يشتبهون بالأستاذ عبد الصمد مدير المدرسة القابعة بتلك المدينة لأن الامر سيؤثر على مدرسته.
لا أعلم حقا ما الذي يدور بتفكيرهم، ذلك الشخص الذي يشتبهون به هو مربي أجيال فاضل كيف له أن يقوم بفعل مشين كهذا!.
لقد كان الأستاذ عبدالصمد أول من ناشد الحكومة ببناء مدرسة في قريتنا لجعل عملية التعليم أكثر سلاسة وراحة على أطفال القرية.
انسللت من بين هذا الجمع عائدا لسيارتي لأشق طريقي للمنزل.
تلك القرية لم تظهر بعد على خرائط جوجل وذلك يعود إلى فقر بنيتها التحتية، كل ما يميز قريتي هو ان أجواءها مناسبة جدا للاسترخاء والتأمل فهي مزيج من الهدوء والصفاء، يمكنها أن تصبح قبلة لعشاق السفر والمغامرات، ومؤخرا أيضا أصبحت قبلة المنقبين عن الآثار حيث أن هناك بعض العائلات التي تمكنت بالفعل من ايجاد بعض القطع الأثرية.
المنزل بتلك القرية كان لي هو الأمان من أعين هؤلاء الحمقى الذين اعتادوا على تهميش المرأة، فدائما ما أتفاداهم في طريقي من المنزل للعمل والعكس، فأغلب أصدقائي قد تزوجوا، أو تلهيهم ظروف الحياة وأقدارها.
لقد انقضت تلك العطلة سريعا بين المكوث بالمنزل والراحة والتنزه بتلك الحقول، حفزت نفسي للنوم باكرا كي أستيقظ في الصباح الباكر مفعمة بالنشاط لانطلق في طريق العودة للعمل، ودعت والديّ في الصباح الباكر، وانطلقت الي عملي، لأتفاجأ بغلق جميع منافذ الخروج والدخول للقرية بحواجز أمنية، ترجلت من السيارة بحثا عن أحد ما لأسأله عن الأمر، فأخبرني شخص ما بأن تلك الحواجز وضعت في وقت متأخر من الليل ولا أحد يعلم السبب ولكن هناك تمركز امني أشار إليه إن اردت المزيد من المعلومات على التوجه له. وبالفعل اتجهت الي ذلك المكان الذي اشار اليه لأجد بعض المجندين الواقفين فأسأل احدهم عن الأمر ليجيبني بأن تلك الحواجز وضعت لكي لا يخرج ولا يدخل أحد للقرية، طلبت منه أن يأذن لي بالخروج من القرية للعمل ولكنه أخبرني أن ذلك الأمر خارج سلطاته فهو مجرد مجند في قوة أمن لذا نصحني إذا اردت الخروج من القرية على الذهاب للرائد عامر القابع بهذا الكرفان فـهو المسؤول عن العملية برمتها، توجهت الي ذلك الكرفان الذي اشار اليه وطرقت على بابه عدة طرقات لأجد شخصا ما يفتح الباب من الداخل ويطل علي، شاب بمقتبل العمر يمتلك جسدا رياضيا وعينين بنيتين وشعرا أسود وبشرة بيضاء كيف لشاب وسيم كهذا أن يلتحق بالشرطة؟ فكل من اعتدنا رؤيتهم من أفراد الشرطة تتسم ملامحهم بالقسوة والشدة.
تخطيت حالة الانبهار التي انتابتني بمجرد رؤيتي له، لأسأله عن سبب وضع تلك الحواجز، أخبرني أنه تم فرض حظر التجول بالقرية، الي حين الانتهاء من حفر أساس المشروع، حاولت جاهدة أن اشرح له باختصار طبيعة عملي وأني لا استطيع مخالفه تلك المواعيد التي حددت سابقا ليخبرني هو الآخر بهدوء بأنني استطيع التجول بالقرية فقط في اضيق الحالات، اما عن الخروج منها فهو أمر غير قابل للنقاش، سألته عن سبب ذلك الحظر هل يعود لإتلاف الآلات؟ لأجده يطلب مني الذهاب للمنزل إن لم يكن هناك ضرورة لبقائي بالخارج، سألته مجددا إلي متي سنظل محتجزين بهذه القرية؟ يبدو أن تلك الأسئلة الفضولية جعلته يستشيط غضبا لأجده يطلب مني أن أتبعه.
حين وصلنا لموقع تلك الآلة التالفة تنهد بعمق وأخبرني بأن أمر إتلاف تلك الآلات ليس عائدا لأعمال شغب من قبل أحد ما وان الأمر برمته عائد فعليا إلي كون تلك الآلات تصطدم بشيء ما في الأسفل فتنكسر دون أن تستطيع اختراقه يستطرد حديثه قائلا بأن الأمر تكرر ثلاث مرات وأن ما يدور من حديث بهذه القرية ما هو إلا محض إشاعات. تجرأت قليلا لأسأله عن كيفية تصرفهم مع الوضع الراهن ليخبرني بأن القيادة العامة سوف ترسل بعض الشيوخ، فهم يشتبهون بكون تلك الأرضية بوابة لمقبرة ما، قاطعته غير مكترثة لشيء سوي أن أتيقن مما تحدث به لتوه قائلة له شيوخ من؟ من الذين سيحضرون لقرينا؟ من يستدعيهم؟.
أخبرني بأنهم سيرسلون بعض الشيوخ لفك الرصد إذا تبين فعليا أن تلك المنطقة بها مقبرة، حاولت ألا أتحدث بانفعال معه واخبره بأنه إن ثبت أن الموجود بالأسفل مقبرة فإنه مكان مهجور منذ وقت طويل لذا فماهية قاطنيه تعود لمخلوقات أخري بمعني ابسط قد يكون المتحكم بتلك المقبرة هم الجن. لأخبره بان لا يوجد شيء يدعي رصد أو حرس المقبرة، الامر فعليا محض خرافات، الجن اتخذ تلك الاماكن المهجورة بيوتا له ولن يتركوها هكذا فبحسب العهود السليمانية التي بيننا وبينهم إذا لم نخترق خصوصيتهم لن يؤذونا وفتح تلك المقبرة لن يكون الا نذير شؤم وخراب على قريتنا.
لم يجبني الرائد عامر بشيء سوي انه التفت لذلك المجند واشار له بإصبعه ليأتي مهرولا فيطلب منه اصطحابي الي منزلي وعدم السماح لي بالقدوم الي هنا مجددا، أمسك بي هذا المجند من يدي وسحبني الي خارج الموقع وهو يهمهم ببعض الكلمات التي لم تلتقط منها اذناي شيئا، ليقف ويحرك رأسه يمينا ويسارا محذرا إياي من القدوم مجددا وأخبرني باني على حق وأن فتح تلك المقبرة سيكون بوابة الجحيم.
طلبت منه ان يترك يدي فها قد وصلت لمنزلي، ليقف أمامي بنظرات شبه خاليه من أي تعابير ويخبرني بأنني قد حذرت وما كان على سوي التحذير و أنه لا يجب على أن أوقع ذاتي بمشاكل لا دخل لي بها، سألته عن اسمه فتردد في البداية قليلا ليعاود النظر الي قائلا مجند سالم، فسألته هل يصدقني ولكنه تهرب من الإجابة واستأذن مني متحججا بضرورة العودة للموقع ليختفي من أمامي بسرعه.
أغلقت باب المنزل وانطلقت ابحث عن والديّ بالداخل لأجد والدتي “الحاجه بثينة”(هي امرأة ريفية تكره دائما حياة المدينة وما يأتي منها تبلغ من العمر ٤٥ عاما تتمتع بصحة جيدة ولا تعاني من اي اضطرابات صحية سوي ارتفاع ضغط الدم فقط) تقف بالمطبخ وتقوم بتحضير الطعام، اعتقدت انها فرصة مناسبة لأجتمع معهم لوقت أطول فها هي مائدة الإفطار ستجمعنا مجددا، تجاذبت أطراف الحديث مع والدي ليخبرني بأن هناك بعض القيادات التي تواصلت معه ليهدئ الاهالي حيال قرار حظر التجول وليخبرهم بأن الامر فقط لمصلحتهم، سردت على أبي ما حدث معي منذ الصباح لأجده قد ترك الطعام ونهض غاضبا فقط مجرد بضع خطوات ووجدته عائدا لينظر بوجهي محذرا إياي من الاقتراب من ذلك المكان مجددا أو الثرثرة مع أحد بهذا الأمر ليرمقني بنظرة غاضبه ويرحل. تمد والدتي يدها الي بكوب من الشاي الساخن هي تعلم أني لا أفضل تناول المنبهات الا حينما أشعر باضطراب ما، فقط اتناولها كعقاب لي على تفكيري الزائد.
انقضى النهار بسلام وها أنا ذا على سطح المنزل أراقب تلك السماء التي اكتست بـالنجوم التي تتلألأ منيره عتمة ذلك الليل، وهذا النسيم الذي يداعب الاشجار برفق ليتحول هذا المشهد فجأة إلي ظلام دامس. أين اختفت تلك النجوم؟! فالسماء صارت حالكة الظلام والكهرباء انقطعت كعادتها ولكن لم تحول ذلك النسيم الهادئ الي رياح عنيفة محدثه جلبه بالأرجاء. أتعلن الطبيعة عن تمردها؟
بدأ الخوف يتسلل بداخلي، فقد كان كل ما يحيط بي أسود، ليقطع هذا السكون رنين هاتفي الذي يصدح بنغمة صاخبة لأجدها رسالة من والدتي تطلب مني النزول ومساعدتها ببعض الأعمال المتعلقة بالمطبخ فوالدي سيقيم وليمة غدا لبعض أصدقائه أتممت العمل الذي كلفتني به والدتي لأتوجه لغرفتي، كنت قد قررت أن أحصل على حمام دافئ يزيل توتر هذا اليوم قبل ان أغفو ولكن تلك العلامة التي على يدي استوقفتني وألجمتني لدقائق، لا أعلم كيف ظهرت بيدي تبدو كحرق ما ولكن كيف لم اشعر بألم؟! وكيف لا أتذكر الأمر؟
ذهبت لوالدتي فضمدته لي ولم أسلم بالطبع من تلك الأسئلة الفضولية التي أطلقتها بوجهي ولكن لم يكن لدي إجابة سوي الصمت. ذهبت لغرفتي وتدثرت جيدا قررت أن أغفو ولا أرهق ذاتي بمزيد من التفكير ولكن الأمر كان أصعب من كونه قرار تم اتخاذه لا أتذكر كم مر على من الوقت وانا ما زلت متيقظة.
أنا وحدي في مكان مظلم، هناك صوت وقع أقدام بالجوار، ولكني عاجزة عن رؤية ما حولي بسبب شدة الظلام، أنفاس ساخنة تلفح وجهي وهي تدور حولي فتساءلت هل هناك أحد؟
يأتيني صوت لم أستطيع تمييزه في البداية هل هو صوت عواء أم لغة لا افهمها ليصبح رويدا رويدا كلمات يمكنني استيعابها ” ما كان عليك سوي التحذير، وها قد حذرت، لا تجلبي المشاكل لذاتك” لقد تكررت تلك الجملة مرتان واختفي الصوت فجأة، لأستيقظ مفزوعة مما كنت أراه، أضع يدي على صدري في محاولة مني للتحكم بذلك الاضطراب الذي لحق بي وحينما رفعت عيني رأيتهما يقفان امامي محدقين بي، نظرات تمتزج بين الخوف والقلق والاضطراب حاولت ان أتمالك نفسي وسألت والدي لم هما بغرفتي فأخبرني بأنهما قد استيقظا على صرخاتي.
اعتذرت منهما لأني جعلتهما يفزعان هكذا وأن الأمر مجرد كابوس، طلب مني والدي ان أعود للنوم واخبرني أن كل شيء سيصبح على ما يرام، وما إن اغلق الضوء والباب سمعت صوت والدتي الخائف وهي تسأله هل حدث الأمر مجددا لا بد أن نرسلها من هنا؟ أشار إليها أن تلتزم الصمت وانسحبا ليكملا الحديث بغرفتهما.
في الحقيقة لا أعلم ما الذي يخفيه والداي عني، ولكن يبدو أن الأمر لا ينذر بالخير، انقضي ما تبقي بي من الليل وانا أفكر بحديث والدتي، لا أعلم متي استسلمت للنوم ولكني استيقظت في اليوم التالي على طرقات على باب غرفتي، لقد كان ابي أتي ليوقظني فهناك أحد ما يريد مقابلتي بالخارج.
أغلقت عيناي بعد خروج والدي من الغرفة كم تمنيت حينها أن أكن قادرة على إزاحة ذلك الإرهاق والتعب من على كاهلي، لا أعلم لما يراودني شعور بأن القادم سيكون أسوأ ولكن لا بأس تركت غرفتي واتجهت أحث عن هذا القادم لمقابلتي.
لقد كان هناك شخص ما يقف بالشرفة ولكن لماذا كنت اشعر برجفه تعتريني كلما خطوت خطوة تجاه هذا الشخص، كأني أُساق للموت بإرادتي، ليلتفت حينما شعر بقدومي لأدرك ان ذلك الشخص الذي يريد مقابلتي هو الرائد عامر ولكن ما الذي اتي به إلي هنا؟!.
القيت عليه التحية ليبادلني إياها ويخبرني أنه أتي لأمر مهم ويجب الا اقاطعه، جلست أمامه وقبل ان يبدأ حديثه دخلت والدتي وهي تحمل بيدها صينيه بها بعض المشروبات الساخنة، فشكرها الرائد عامر ورحلت الي الداخل، ليبدأ هو بسرد الأمر الذي أتي به إلي هنا فينظر حوله كمن يراقب المكان ثم يعتدل بجلسته ويتنهد ويخبرني بأنه بالفعل قد اتي بالأمس للموقع بعض من الشيوخ وأكدوا بأن تلك الأرضية الصلبة هي بوابة مقبره وذكروا أن الرصد على تلك المقبرة شديد ويحتاجون المزيد من الوقت لتحطيمه، وانهم قاموا بالأمس بعمل بعض الرسومات على ارضيه بوابة تلك المقبرة آملين في ان يضعف ذلك قوة الراصدين ليكملوا مهمتهم غدا ولكن بتمام الثانية فجرا انقطعت الكهرباء ولم يعد هناك إضاءة بالموقع لتنتشر رائحة بشعة في الموقع بأكمله كأن أحدهم يحترق استمر الامر لخمس دقائق لتعود الكهرباء من جديد للموقع.
أخبرني بأنه كان مرهقا بشدة لذا اكتفي ببقائي في الكرفان ومراقبة خيالات المجندين التي كانت تتحرك بالجوار، يبدو أن الامر بخير وكل شيء على ما يرام.
استغرقت في النوم وحين استيقظت في الصباح الباكر وجدت القوة التابعة لي بالإضافة لعمال المشروع والمهندسين جميعهم كانت جثثهم محترقة ومعلقه على أسياخ الحديد التي بالموقع لقد مات الجميع يا ثراء! أنهي حديثه لينكس رأسه ويضع راحتي يده على مؤخرة رأسه.
نظرت إليه باندهاش وشفقه فلم أجد من كلماتي ما يسعفني لمواساته فقط سألته عما سيحدث بالوقت الراهن ليكمل حديثه قائلا تلك الطلاسم والرسومات التي قام الشيوخ بعملها قد طمست وكتب مكانها بالدماء “لن تعذبوا طويلا ارواحكم ستصبح لنا فالبقيه قادمون”، أخبرني بانه أبلغ قادته بالأمر وقد اوصوه بالتعامل بسرية تامة مع الامر كأن بعض المشاغبين هم من افتعلوا هذا الامر لإثارة الذعر بالقرية. وأخبرني بأنه طلب مساعدة والدي ليبقي هنا الي حين ارسال قوات الدعم الجديدة واطلاعه على المستجدات.
جلسنا صامتين بعدها فيما يعادل ساعتين تقريبا لأجد نفسي اسأله ما الذي حل بالمجند سالم؟.
لتصدمني دهشته حينما أخبرني بأن أفراد قوته ليس بهما مجند يدعي سالم، حاولت أن أذكره بأنه سالم هذا هو نفسه الشخص الذي أرسله لإيصالي الي المنزل ولكنه أنكر الأمر كليا ليخبرني بأنه ذهب وتركني بعد ان اخبرني ان أرحل من الموقع ولم يأمر أحدا باصطحابي لأي مكان.
أخبرته بأني مازلت أتذكر هذا المجند لقد أمسك بيدي وأخرجني من الموقع، بالحديث عن إمساكه بيدي لقد وجدت تلك العلامة بالأمس ولم اكن ادرك سببها ولكن الآن تذكرت هذا المجند كان ممسكا بيدي من تلك المنطقة لأريها إياه فينصدم ويخبرني بأن هذا الحرق اشبه بالحروق التي اصابت تلك الجثث.
استأذنت من الرائد عامر فالأمر قد فاق قدرتي على التحمل، دخلت غرفتي وأغلقت بابها ولا أعلم كيف سقطت غافية بمكاني! ولكن تلك الطرقات التي على الباب أيقظتني لأفتح الباب فأجد والدتي امامي لتخبرني بأن طعام الغذاء أصبح جاهزا وأن الرائد عامر قد رحل فقد آتاه استدعاء من الموقع.
جلست على طاولة الطعام بصمت أتناول طعامي غير عابئة بما يدور حولي، أنهيت طعامي واستأذنت من والدي للخروج لاستنشاق بعض الهواء الذي ربما يهدئ ذلك الصراع المتفاقم بداخلي، كان من اللافت للانتباه اصطفاف قوات الامن على جانبي الطريق لتحول القرية لثكنه عسكريه، اعتقدت ان الامر الذي حدث بالأمس سيثبط من عزيمتهم على فتح تلك المقبرة.
يقودني صوت ما بداخل بعيدا عن تلك المشاكل إلى ان أحدث هاتفي رنين منذر بقدوم رسالة ما، لأجدها من الرائد عامر يخبرني بان هناك اوامر صدرت بمعاودة عمليات الحفر فلقد أتت قوات ومعدات أكثر حداثه، ليخبرني بان اكتشاف مقبرة كتلك سيعيد للسياحة مجدها في وقتنا الحالي.
انقضي يومي وانا اتجول بين الحقول وألتقط بعض صور المناظر الطبيعية، عدت للمنزل بالمساء متناسية ما حدث، أردت الحصول على حمام بارد عله يهدئ هذا البركان الذي بداخلي ويريح رأسي. تدثرت بذلك الغطاء بجوار والدي، وظلت والدتي تداعب شعري بأناملها إلى أن غفوت.
بمكان ما بتلك الساحة التي اعرفها جيدا، أقف وحيدة ولكن لم السماء قاتمة هكذا، اتذكر ان الطقس كان جيدا قبل قليل، بدأت أتساءل أين ذهب المارة؟!، لماذا ساحة القرية خالية هكذا؟! هرولت بالأرجاء بحثا عن أحد ما ولكن لا يوجد أحد بالجوار اتكأت على هذا الجدار الذي بجواري وجلست مرغمة على فتح عيناي، فلقد بت أخشى إغلاقهما لكي لا تتبدل الأمور للأسوأ، عيناي تتثاقل ببطء وخدر يسري بعروقي. ها أنا أفتح عيني ببطء مرة أخري أنا بالمكان ذاته مرة أخري، لا يوجد أحد بالجوار ولكن هناك بقع دماء على الأرض يا ويلي نظرت تلقائيا ليدي لأجدها مخضبه بالدماء هي الأخرى وثيابي كانت منذ لحظات نظيفة لماذا هي الآن ملطخه بالدماء؟! مرة اخري عيناي تتثاقل ببطء وخدر ولكني قررت ان اقاوم هذه المرة لن أستسلم….
أستيقظ في منزلي متصببة بالكثير من العرق فتهرول والدتي لتأخذني بين احضانها، كمن استعادتني من الموت، لتخبرني بانها ستحضر لي بعض الطعام لامسك بيدها وأجلسها بجواري واطلب منها أن تسرد لي الذي حدث، لتخبرني باني بعد ان غفوت بجوارهم استيقظت في أثناء الليل أصرخ لأتكوم حول نفسي مرة اخري و أهذي ببعض الكلمات الغير مفهومة، وقد احضر والدي لي الطبيب الذي أرجع الأمر لضغط العمل وإرهاقه وأمرهم بإعطائي بعض المهدئات والحقن المخدرة وأن يتركونني أرتاح.. هذا كان يفسر شعور الخدر الذي كان يجتاح أحلامي بين الحين والآخر، تنهدت بإرهاق واخبرتها إنني الآن بخير ولا داع لأن تقلق علي.
انقضي اليوم بي على سريري فلم اعد قادره على الحركة من كثرة الإرهاق الذي اصابني، إلي ان يأتي الليل وأسدل ستاره لتبدأ تلك المعاناة مجددا، أرادت والدتي أن أنتقل الي غرفتهم وأغفو بجوارهم، ولكني رفضت أنا مصممة على معرفة ماهية تلك الرؤي ترجلت ببطء من على سريري قاصدة المطبخ احضرت كوبا من الشوكولاتة الساخنة وعدت مرة اخري لغرفتي إلي ان غلبني النوم لأغفو وأنا غير مدركه.
انا بساحة القرية مجددا، نيران متأججة بكل شيء، كل شيء يحترق، دماء قابعة على اتلك الارض و… هناك كائن ما لا اتبين ملامحه يبحث عن شيء ما، منظر ذلك الكائن جعل قلبي ينتفض خوفا، شعر كثيف، رائحة نتنة، وجه ليس به عينان ليقطع شرودي بهيئته ذلك الصوت الخفيض الذي يأتيني من الخلف طالبا مني الهرب، التفت ببطء لأنظر من هذا ليقع قلبي بين قدمي من الخوف انه الرائد عامر متكوم على الأرض اقتربت منه ببطء كي لا يشعر هذا الكائن بي لأجده قد نزف كثيرا ودماؤه قد خضبت يداي وتناثرت على ثيابي.
جسده ينتفض بشده، اجفانه تتثاقل، رفعت رأسه لا سنده على قدمه علني أسعفه ولكنه كان قد فارق الحياة احتضنته لأبكي واترجاه أن لا يتركني وحيدة بهذا الكابوس، حاولت ان أقنع نفسي بأنه محض كابوس وسأستيقظ كالعادة بمنزلي. يبدوا ان هذا الكائن قد فطن اخيرا لوجودي بالمكان فأخذ يقترب مني وانا ثابته على الارض كمن تجمد بمكانه ليقف امامي ويصفعني بتلك اليد الغليظة لأفقد وعيي ويكن آخر ما أراه هو الدماء.
استيقظت بمكان ما علمت فيما بعد أنه المستشفى، لا أعلم من أتي بي إلي هنا؟ ماذا حدث؟ لقد أخبروني بأن زلزالا ما قد اطاح بقريتي ومحاها من على الوجود، لقد وجدني المسعفون فاقدة الوعي فنقلوني للمستشفى رأسي تؤلمني بشدة لذا طلبت من هذه الممرضة ان تعطيني مسكنا ما، اعطتني المسكن وطلبت مني الراحة. أنا وحدي بنفس المكان المظلم مرة اخري، أصوات لخطوات تركض حولي وانفاس ساخنه تلفح وجهي ليخبرني ذلك القابع امامي “ميزت فامتزت حذرت فاستبعدناك من دائرة العقاب، لا تدعي أحدا يعلم بما حدث هذا ليس أمرا ولا تحذيرا هو شيء من قبيل المعروف إن خالفتيه بالحديث عما حدث بتلك القرية، ستلحقين بهم، أمامك الحياة الآن لا تنظري الي الخلف، فليس به شيء سوي الموت، إن أردت إياه ستنالينه بأبشع الطرق.
اليوم أسرد لك تلك القصة لأنني أصبحت وحيدة بعد وفاة والدي ووالدتي لم يتبق لي سوي عملي، ناهيك عن ألم الوحدة الذي استشعر به يعتري صدري، إنني احيا بصراع نفسي بدأ يفتك بعقلي أسرد لك اليوم أيتها الطبيبة تلك القصة لأني لم أعد أتحمل، اريد ان أنال أي عقاب فقط لأرحل عن هذا العالم ولينتهي الامر.
سألت تلك الطبيبة إن كانت تصدقني ام لا؟! تلك الدهشة التي تعتريها تظهر تصديقها لي، طلبت مني الاسترخاء الآن فهي لديها بعض الاعمال وستعود مجددا، خرجت الطبيبة وأنا اغلقت عيناي بانتظار ما هو قادم. خرجت تلك الطبيبة من غرفتي لتجد الدكتور عامر متكئا على الجدار بانتظار خروجها ليسألها عما أخبرتها به، لتسرد له القصة كاملة.
بحديقة تلك المستشفى يجلس الدكتور عامر مع تلك الطبيبة موضحا لها مرضي فإني أعاني من حالة نفسية اصابتني منذ وفاة توأمي وهي حالة اشبه بنكران الواقع وتزيفه.
فكل ما قصصته عليها كان محض نسج خيالي فالقرية مازالت بخير لم يصبها سوء ووالداي مازالوا على قيد الحياة ليخبرها الطبيب بأن لا وجود لتلك الخرافات التي قد سردتها عليها واخبرها ايضا انها تستطيع التأكد بنفسها بالتواصل مع والداي فما أنا الإ مريضه نفسيه أخلط الواقع بالخيال في عالمي.