من حقيبة الذكريات – عشر دقائق ولكن! 

من حقيبة الذكريات – عشر دقائق ولكن! 

د. سعيد شوارب

اللوحة: الأسباني فيسينتي روميرو ريدوندو 

يستذكر الدكتور سعيد شوارب في سلسلة من المقالات بعنوان «من حقيبة الذكريات» أيام الغزو العراقي للكويت، وكيف اضطر لمغادرة الأخيرة مع أفراد أسرته ككثير من المقيمين العرب الذين اضطروا لمغادرة الكويت إلى بلدانهم في ظروف صعبة. 

أنظر إلى صغاري، لا يحيطون بشيء من الهول الذي أحاط بهم، تتساقط نفسي من القلق.. أنفـُسـًا!

ليس لنا إلا الله، الأطفال مالهم هنا من بعدى، إلا الغربة وهوانُهم على الناس!

الثامن والعشرون من أغسطس1990، الكويت كلها في قبضة الذين تخلوا عن كل شيء إلا النهب وبسط السيطرة على كل نابضةٍ، لم يبق في الأمل أن تحصل على ما يعينك على الطريق، استولى الغزاة على المصارف، كل المصارف، ليس بينك وبين وطنك إلا مسافات من الروع مشحونة بأسئلة بلا جواب، ربما نفلح هذه المرة في مغادرة الكويت إلى مصر، استحال فى الكويت البقاء اليوم، كما استحال عنها الرحيل بالأمس، نوشك أن نغادر البيت إلى المصير المجهول.

 دق جرس التليفون: 

– نعم. 

– أنت الدكتور سعيد شوارب؟

– نعم أنا هو!

– سيارتك زين؟

– الحمد الله!

– ألا تنوي أن تغادر؟

– الآن إن شاء الله، من حضـْرتك؟

– لا تعرفني أنا قادم الآن، انتظر لا تتحرك قبل أن أصل.

 لا تتحرك؟ ثقته أفدحُ مما يحتمل، جملته الأخيرة في صرامة الأوامر العسكرية، أي قادم غريب هذا؟ ليس في الأعصاب مساحة لضغط جديد، ما سؤاله عن سيارتي؟ السيارة هي خيط الرجاء النحيل الذي تزحمه الأسرة والأحزان، بعد عشر دقائق؟؟ تلك هي أطول عشر دقائق عرفتها عدادات الزمن، صدري على زجاج النافذة أنتظره، أهرب من دموع زوجتي وأسئلتها التي لا يجيب عنـْها إلا القضاء والقدر، لا أريد أن تقرأ ما يشقـّني من الهواجس.

  رحمتك أيتها السماء، هي إذن نهاية الأم وضياع صغارها، أية حماقة تلك التي ارتكبتها بالأمس مرات؟ لا بد أن جهاز المخابرات العراقية كان يراقب هاتفي وأنا أقرأ القصيدة الجديدة ضد صدام حسين والغزو العراقي على أكثر من زميل، نعم هي النهاية لساذج مثلك يا سعيد شوارب، فلأبدأ بتمزيق القصيدة قبل أن يصل.

صعب أن يمزق الإنسان جزءًا من كيانه مختارًا، لا لا دسستها في ساق جوفاء لمنضدة معدنية، يصعب أن يبلغ التفتيش هذه الدرجة من الدقة، أكاد أسمع صرير مفاصلي تتلوّى كما تتلوّى القصيدة وهى تندسّ في قائمة المنضدة، عدت إلى الالتصاق بالنافذة نزل من سيارته يحمل رشاشًا ضخمًا معلقـًا على كتفه الأيسر، صوَّب عينيه إلى النافذة كأنه يعرف شقتي في الطابق الثالث، يقترب من مدخل العمارة كما يقترب الذئب من الغنم في حظيرة ضيقة، لم أتبين منه شيئـًا أعرفه، زحف الموت على مساحة الحياة كمان يزحف الظلام على بقايا الضوء، هي النهاية إذن! أصبحت الدنيا كلها لفظتين: أولادي الموت، رحمتك يا أرحم الراحمين!

فزعتْ زوجتي وأطفالها خلف باب الغرفة القريبة، اصطنعتُ رباطة الجأش ورحبت به مسحَتْ عيني بسرعة تضاريسَ وجهه، أنفض ذاكرتي عن شيء أعرفه فيه، دلف إلى الصالة، زحم صدري برشاشه الأسود، جلس.. جلستِ الجبالُ كلها على أنفاسي!

– أهلاً وسهلاً! 

– قلت أكيد أنه ليس في ثلاجتكم شيء وأنتم على نية السفر فأحضرت هذه الحلوى بعد أن كلمتك. 

 “ليس أبغض إليّ من الحلوى وما اشتق منها في تلك اللحظة.”

– شكرًا، ومن حضرتك؟ نحن في خدمتك. 

– لا لا أنا الذي في خدمتكم، هل تذكر “حسن” صاحب المطعم في منطقة “المباركية”؟، لقد كان يحدثني كثيرًا عنك، إذ كنت أرافقه أحيانًـا وهو يوصل إليكم بعض الطلبات في هذه العمارة.

 لطفك يالطييييييييف!

– ومن أنت إذن؟ وما الأمرُ الذي جاء بك هذه الساعة؟ وأين حسن؟ 

– أخذه العراقيون، نعم أخذوه، أعرف أنك سوف تحزن عليه كثيرًا، وربما كان هذا بعض دوافعي للسؤال عنك اليوم.

– لا تريد أن تقول من أنت؟

– أنا ” بدر عطا الله” صديق “حسن” الحميم، ربما تقابلنا أكثر من مرة في المطعم لكنك بالطبع لا تذكُرُني. 

– إذا كان عندي ما أقدمه لك فأنا تحت أمرك!

– قلت لحضرتك أنا الذي في خدمتك بالفعل. 

حضرتى..؟

– وقد أهمني أن أزورك، فظروف السفر تحتاج إلى مساعدة وخصوصـًا في هذه الأوضاع هل عندك شبكة تضع فيها أغراضك على ظهر السيارة؟

– لا! 

– خذ شبكتي.

  هل عندك ما تـَجـُّر بـِهِ سيارتك إذا حدث ظرف ما؟

– للأسف لا! 

– سأعطيك ما عندي!

شيطان هذا قفز ليفجِّر أعصابي؟ أم ملاك هبط لينقذني من هلاك الأعصاب؟ قلت له ونحن نشد الشبكة على سيارتي: 

– بدر، أنت كويتي، فلماذا تلبس هذا الزي العسكري، وتحمل هذا الرشاش؟ لقد أتلفتَ أعصابي!

– هذه خدعة للعراقيين، جرَّبتُها أنا ومجموعة منذ أمس الأول، بعد أن اختطفنا ملابس ثلاثة منهم.

– شئ عظيم جدا! 

 شددنا بالحبال ظهر السيارة، وتهالكت الأسرة داخلها، وقفت أودع ” بدر عطاالله ” هذا الشيطان الملائكي، والدموع تسبق إلى عيون كلينا، أخرج من جيبه مبلغـًا من الدنانير الكويتية، وقال:

– لا تضمن ظروف الطريق، خذ هذه المائة دينار، واترك لي تلك الثلاثين!

– بدر، قد لا أعود إلى الكويت، فكيف أعيد إليك حقك؟

– إن شاء الله تعود حين تعود الكويت، وإلا، فأنا من الآن أسامحك.

 انفرطت الدموع من عينيّ تسابق شريطا هائلا من الحزن والذكريات، وتسبق شريطا هائلا من الهواجس.. انطلقتُ صاعدًا إلى الشقة لأغادر لآخر مرة مكانا أحببته بلا آخر، أخذت القصيدة من موضعها في رِجْل المنضدة المعدنية، اتخذت مكاني على عجلة القيادة واستسلم الموكب الحزين للمجهول.. في المرآة، “بدر عطالله” خلف السيارة، لايزال يلوّح بكلتا يديه، لا يكاد يبلغني صوته المتهدج!

انخرطت زوجتي في دموع صامتةٍ، تشهق بدعَوَات حزينة وتتلفت من خلفها إلى تاريخ كامل، يشهق قبل أن ينطفئ من خلف نافذة شقتنا الحبيبة بالطابق الثالث، 

  في بدء الرحلة من بيتنا في ” حَولِّي “بالكويت المحتلة، عبر المسافات العسكرية الملغمة خلال العراق والأردن إلى القاهرة، ستمتد هواجسي وخوفي على أسرتي إلى أماكن لا أعرفها، وظروف لا أخمنها، وليال أرى أولها ولا أرى أواخرها، جمعتُ صوتىَ المبعثر كحبات مسبحة، وقلت أ ُسمع أطفالي وأكف دموع زوجتي:

” اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلَب”!!

                                        وللحديث بقية إن شاء الله

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.