الكابوس

الكابوس

ليزا زغلول

اللوحة: الفنان الإنجليزي هنري فوسيلي

كما يشاع عنها دائما ألا أحد يدخل إلى تلك المستشفى ويتمكن من الخروج حيًا، فالمرضي بها لا يتحسنون مطلقًا بل تزداد حالتهم سوءًا فتظل معاناتهم قائمة إلي أن ينفذ رصيدهم من الحياة، ولا أحد يعلم عنهم شيء حتي بعد وفاتهم يرفضون تسليم الجثث لذويهم.

يقولون بأنها وكر لتجارة الاعضاء وبما أن حدسي الصحفي مشتعل هذه الفترة فقررت اقتحام تلك المستشفى الغامضة واكتشاف أسرارها، قمت بالاستعداد جيدًا، حيث تناولت ذلك القرص الذي تحرص والدتي على تناوله عندما تصاب بارتفاع ضغط الدم فهي تجدي نفعا في عودته لمعدله الطبيعي دائما وبالنسبة لي ستقوم بخفض ضغطي فقط، أعلم أنها مغامرة شرسة ولكني كنت على استعداد تام لأخوضها جهزت حقيبتي وقررت ترك بطاقة الهوية الخاصة بي في المنزل والاكتفاء فقط بهاتف من الطراز القديم وبعض الاموال والأوراق والأقلام وارتديت ملابسي وذهبت لغرفة والدتي. 

أدعي غزل أبلغ من العمر خمسا وعشرين عاما، ولكن هيئتي توحى بأقل من ذلك، أعمل صحفية بجريدة الشباب الأسبوعية ومدونة على بعض المنصات، حلمي كالجميع الشهرة ولا شيء غيرها.

ودعت والدتي وأخبرتها انني سأقوم بزيارة ميدانية لإحدى قري الصعيد كي أتمكن من كتابة تقرير مفصل عن الحالات الإنسانية التي تضررت من تلك السيول الأخيرة، نعم كذبت عليها كي لا تقلق علي.

اقتربت من المستشفى وأنا أشعر بضجيج يعتريني صوت ما بداخلي يدفعني للهروب وقفت أمام ذلك المبني ونظرت خلفي أودع هذا العالم الذي لا أعلم هل سأعود اليه مجددا أم لا، ولكني بالكاد بدأت أتنفس بصعوبة وأسعل أشعر بحرارة شديدة تحيط بجسدي آخر ما رأته عيناي وأنا أسقط أرضا هذا الحارس وهو يسرع الي لينقذني. 

أفقت بغرفة جدرانها زهرية وبها أثاث فاخر وتلفاز وتكييف اعترت ملامح وجهي الدهشة فلم أتوقع أن تكون تلك المستشفى البالية من الخارج بمثل هذا الطراز من الداخل فلقد ظننت أنني ربما نُقِلتُ لمستشفى آخر ولكن زي تلك الممرضة التي طرقت الباب ودلفت إلي لتفحص مؤشراتي الحيوية، منقوش عليها اسم المستشفى ذاته.. ابتسمت لي وقالت: سلامتك تستطيعين الخروج من المستشفى بسلام الآن. 

أمسكت بيدها وأخبرتها أنني بحاجة لأن أري الطبيب، أبعدت يدها وقالت: لا يوجد طبيب مناوب بالمستشفى الآن سياتي في المساء. 

فأخبرتها أنني سأنتظره كنت فقط بحاجة لقضاء مزيد من الوقت بداخل تلك المستشفى، فتحولت ملامحها للاستفهام، أجزم لك أنها كانت على وشك أن تسألني عن سبب تشبثي بالبقاء ولكن هناك من طرق الباب لاستدعائها، فابتسمت لي واستأذنت لتكمل عملها. 

قضيت النهار بأكمله على ذلك السرير أستيقظ ثم أغفو وهكذا الي أن حل الظلام وتتالت الطرقات على باب غرفتي فأذنت بالدخول لأجدها تلك الممرضة جاءت لتخبرني أن الطبيب بغرفة بالاستقبال ويمكنها اصطحابي إليه إن أردت ذلك أو يمكنني أن أنتظره الي حين ينهي الكشوفات التي بانتظاره وسيقوم بالمرور على غرف المرضي ولكني وجدتها فرصه مناسبة للتجول في المستشفى والحصول على بعض المعلومات. 

أمسكت بيدي وطلبت مني الاتكاء عليها كي لا أشعر بتعب فلابد أنني مرهقه جاريتها وبدأت أسير ببطء مصطنع إلى أن وصلنا إلى غرفة الاستقبال ولكن ما لفت نظري هو خلو الممرات من المرضي وأيضا تلك الغرفة التي زعمت أنها مملوءة بكشوفات الانتظار كانت فارغة الا من هذا الطبيب الشاب الذي يطالع الجريدة ويبدو عليه الملل. 

وما إن طرقت تلك الممرضة على باب غرفته القي بما في يده جانبا واستقبلنا بوجه بشوش طالبا مني أن أجلس على الكرسي لأستريح فقد كانت دقات قلبي تسمع من بالمكان مع أن المسافة كانت من غرفتي إل غرفة الاستقبال بضع خطوات ولكني كنت أشعر بثقل فظيع في جسدي كأن الجاذبية انعدمت بتلك المنطقة طلب من الممرضة أن تحضر لي كوب من الماء. 

تحدث الي مباشرة وقال: بماذا تشعرين ومما تعانين؟ 

 كنت ذاهبة الي درس اللغة الفرنسية ولكني لا أعلم ما حدث لي. 

لتأتي الممرضة وتناولني كوب الماء وتقول له. 

يبدو أنها مصابة بمرض الضغط، فقد كان ضغطها منخفض، يبدو أنها فتاة مجتهدة أتمني أن تصبح طبيبة وتلتحق بالعمل معنا هنا. 

نظرت لي وابتسمت قائلة: سنحظى بالكثير من التسلية بوجودها. 

لا اعلم لم غضب من حديثها ولكنه أمرها بالرحيل ونظر الي متناولا ملفي الصحي المدون به الفحوصات التي قام بها طاقم التمريض منذ دخولي للمستشفى وقال: جميع فحوصاتك بخير يمكنك الرحيل، نظرت اليه بترجٍ وطلبت منه أن يستمع لبقية شكوتي فقال: كلي آذان مصغيه مما تشتكين؟ 

لم أكن اعلم بماذا سأخبره، كنت أخشي أن أخبره بعرض يكشف كذبي من خلاله فهو بالأول والآخر طبيب. 

طرق بيده على المكتب قائلا: هل تفكرين فيما يؤلمك؟ 

لأبدو أمامه كالبلهاء حقا ولكني تداركت أمري بآخر لحظه: لا أعلم جيدًا مما أعاني ولكن أخشي أن تصفني بالجنون! انتبه الي يبدو أنني نجحت اخيرا في جذب انتباهه. 

 انا طبيب ومهمتي هي الاستماع للمريض واساعده لكي يتحسن. 

 حتي إن اخبرتك أني أري أشياء لا يراها سواي وأستمع لأصوات لا يسمعها غيري. 

ضحك الطبيب فشعرت بالخجل فتدارك الامر ليخبرني بأنه يصدقني ولكن المعضلة أنهم لم يرفقوا بتلك المستشفى قسما للمرض النفسي. 

ماذا تعني؟. 

اقصد أن ما تعانين منه يا عزيزتي هو هلاوس سمعيه وبصريه يمكنك زيارة هذا الطبيب وهو سيقوم باللازم معكِ. حاولت أن أطيل في الحديث ولكن يبدو أن صبره قد نفذ فقام بالضغط على الزر المجاور ليده اليمني على المكتب فأتت تلك الممرضة بلمح البصر فأمرها بأن تصطحبني لخارج المستشفى وتتأكد من خروجي منها نهائيًا. 

أمسكت بي وعلى ثغرها ابتسامة باردة وقامت بجذبي للخارج كنت أتأمل ملامح تلك المستشفى وأحفرها في مخيلتي فتلك المغامرة فشلت من قبل البدء حتي. 

عدت أدراجي إلى منزلي وكان قد مر أسبوع فعللت الامر لنفسي بأنني فقط كنت مرهقة ومتوترة فلم اقم بحساب الوقت جيدا. 

بعد عدة أيام جلست أحتسي كوب قهوتي وأفكر بالموضوع الذي سأكتب عنه فتذكرت تلك الكذبة التي ادعيتها وضحكت ولكن فجأة جاءتني فكرة أن أذهب لذلك الطبيب ولتكن تلك المغامرة في عيادة الطبيب النفسي، أسرعت لحقيبتي وأخذت ذلك الكارت الذي أعطاه لي الطبيب وبدلت ملابسي واتجهت للعنوان المدون به ولكنني وجدت العيادة مغلقه فاضطررت لسؤال البواب الذي اخبرني بأن الطبيب يأتي للعيادة يومان فقط في الأسبوع منذ وفاة أخيه. 

فعدت للمنزل وحسمت أمري بزيارته غدًا وبالفعل استيقظت عصرًا وذهبت اليه تفاجأت وانصدمت فلم أدرك الأمر في البداية، هو الطبيب ذاته الذي قابلته بالمستشفى فأحكمت السيطرة على نفسي وجلست امامه. 

فبادر بسؤالي عن سبب الزيارة ومما اشتكي؟ 

تعجبت من سؤاله، انت، ألا تتذكرني لقد مضي يومان فقط على تركِ تلك المستشفى واعطائك لي ذلك الكارت، الم تخبرني بأنني بحاجه إلي زيارة طبيب نفسي. 

تراجع للخلف بالكرسي، انفصام عن الواقع. 

 لا لقد اخبرتني سابقًا بأنني أعاني من هلاوس سمعيه وبصريه. 

فوجدته يمد يده طالبا مني الكارت الذي ازعم بانه اعطاني اياه منذ يومين، فمددت يدي له به، فبهت وجهه وبدا التوتر جليا على ملامحه وأخذ ينظر إلى بخوف وطلب من الممرض أن يلغي كل الحجوزات ويعتذر للمتواجدين بالخارج. 

لم أفهم شيئا واحد مما يحدث ولكن وجدته يقف ويغلق الباب بالمفتاح مما حرك الخوف الراكد بداخلي، فوجدته يتوجه للكرسي المقابل لي وطلب مني شرح الامر بأدق تفاصيله ماذا حدث؟ وأين أعطاني اياه؟ وبماذا اخبرني؟

قصصت عليه الامر فأمسك بالكارت يقلبه يمينا ويسارا بين يديه ليلاحظ تلك الكلمات المدونة عليه بخط رفيع تقول ” لا تضيعها من يدك هي تشبهك كثيرا في فضولها استمتع ولا تجعل الحياة تقف على رحيلي يا أخي” 

 نظر إلي وبدا على وجهه ملامح الضياع فأخذت دموعه بالتساقط، حاولت تهدئته ولكني لم أكن اعلم لما هو يبكي. 

فحسمت امري ونهضت واعتذرت منه وأخبرته أنني سأرحل ولن أزعجه مجددًا فأسرع بالإمساك بيدي وجذبني برفق ليجلسني على ذلك الكرسي مجددا. 

جفف تلك الدموع التي خانته وتنهد قائلا لن تتركيني بعد الآن ولن أتركك فلقد تقاطعت طرقنا وانتهي الامر لا تحاولي عبثا. 

طلبت منه أن يفسر لي ما يحدث فنظر شاردًا في اللاشيء وقال: تلك المستشفى مغلقة جراء حادث مأساوي أودي بحياة العاملين بها، وذلك الطبيب الذي تزعمين رؤيته كان أخي التوأم وكان يعمل بها قبل وفاته، من اعطاكِ ذلك الكارت ليس انسانا هي روح. 

انتفضت من مكاني وأنا استعيذ بالله من الشيطان الرجيم، اصطحبني لقبره لأتأكد وقام أيضا باطلاعي على سجلات الوفيات لأقف بعد ذلك غير مدركه لما يحدث حولي فأمسك بيدي قائلا: يا غزل تلك المستشفى التي دلفتِ إليها مهجورة، بدون ذلك الكارت المنقوش عليه خط أخي ما كنت لأصدقكِ كنت سأزعم انكِ مريضة انفصام، ولكن ما شاهدتيه بتلك المستشفى حقيقي ليس مسموحًا لأحد برؤيته أعتقد أن أخي قدم لكِ فرصة على طبق من ذهب للفرار وإلا كنتِ ستلقين حتفك ولن يعلم أحد عنكِ شيئا أعدكِ أنني سأقف بجواركِ إلى أن تجتازي تلك الصدمة وتتعافين من آثارها، ابتسمت واخبرته أن الشيء الوحيد الذي أتمناه أن يكون ما أمر به مجرد كابوس ليس إلا. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.