مِهْرَجَانُ أَلْوَان

مِهْرَجَانُ أَلْوَان

غادة صلاح الدين

اللوحة: الفنان الإسباني سلفادور دالي 

   ذَات مساء دخل محمد البيت يتخفى من والدته، يحمل شيئا بلوريا في يديه، ظنته أمه في باديء الأمر حوض سمك، فإذا بها تحدق به وتسأل نفسها في صمت: 

– ليس به ماء؟! ماذا به يا مُحمد؟!

– لا شيء يا أمي.

– كيف؟ وبه شيء يتحرك أمامي؟!

اقتربت منه سريعا فإذا بها تصرخ ما هذا؟! اخرج بهذا القدر البلوريّ الآن، لن تبقى هذه الحرباء ولا دقيقة واحدة في البيت!

– يا أمي إنها هدية من صديقي أحمد في عيد ميلادي!

صرخت في وجهه: بئس الهادي والهدية! أيعقل أن تُهادى بمثل هذه الحرباء؟!

   وعلى سبيل المزاح وضعها محمد على مكتبه ذي اللون الأسود فتغيَّر لونها في الحال إلى لون المكتب، فانقبض قلبها، تذكرت ذلك اليوم الذي استيقظت فيه على مكالمة هاتفية من أخيها يخبرها بوفاة والدها بعد رحلته مع المرض الذي أنهكه إلى حد الهزال، وكانت لا تفارقه في آخر أيامه بالمستشفى ولا يستطيع عقلها استيعاب أن الموت سيطرق بابهم يومًا، وكيف لهذا الجبل الأشم أن ينهار فجأة؟ فكان بحق يومًا أسود مثل هذه الحرباء. فزاد إصرارها على إخراجها من البيت.

    فلاذ محمد بالهرب بها، ووضعها على المفرش المزركش بألوان عدة، فإذا بها تأخذ الألوان نفسها، وتطل بعينيها من خلال الزجاج كأنها تتحداني، فتذكرت الإنسانة التي كنت أظنها صديقتي حين كنت أقتل نفسي من أجلها، وأصنع لها ما لم تفكر فيه لنفسها دون علمها؛ كي أقدم لها مفاجأة تسعدها، وتغافلتُ عمَّا ينصحني به أصدقائي الآخرون، وقدمت الحب والوفاء والجهد والعطاء والإخلاص، وإذا بي أطالع الرسائل الخاصة على برنامج الماسنجر فإذا بصورة من محادثة بينها وبين صديقة أخرى تسبني وتتحدث عني بالسوء، وتتنكر لكل ما فعلته من أجلها، مما أصابني بصدمة عظيمة أفقدتني الثقة بكل من حولي، ولم أقاوم رغبتي في عمل حظر للصديقة الخائنة والواشية البغيضة.

   ورجعت أصرخ هذه المرة في تلك الحرباء اللعينة، فأخذها محمد من أمامي؛ لينقذها مني ووضعها على منضدة المطبخ البيضاء، فتحولت في الحال إلى كائن بديع، أحببتُ اللون الأبيض أكثر في هذه اللحظة عندما تجلَّى وجه أمي أمام عيني بنظرتها الحانية ويدها الكريمة المعطاءة وقلبها البحر الذي يتدفق حُبًّا لا ينضب أبدًا، وقول الحق بكل جرأة وشجاعة، وحكمتها في معالجة الأمور، وتوازنها ورؤاها الصائبة دائما، فكم أنا محظوظة بهذه السيدة العظيمة التي تستحق أن يُصنع لها تمثال، ولكن ماذا أسميه يا ترى؟ تمثال الحق أم الحرية أم تمثال القيم أم الجمال؟ لا لا لا سأسميه تمثال الحياة، نعم فأمي حياة لنا جميعا، غير أني نظرت لهذه الحرباء من جديد لعلي أرى جمالا فيها يجعلني أتراجع عن قراري بشأنها.

    أخذها “محمد” على غفلة مني، وبحثت عنها في كل أرجاء المنزل، فوجدتها في غرفته على السجادة الخضراء، وارتكنت تحت الوردة المرسومة على السجادة كأنها فرع أخضر يتمايل، قلتُ: سبحان الله! كم تشبه تلك الحاقدة صاحبة القلب الأسود رغم اهتمامها الدائم بالأزهار واللون الأخضر!

    تنهدت بغيظ وأنا آمر ابني أن يخرجها من بيتي، وقررت أخيرا بعد طول الصبر والتحمل أن أتخلص من كل حرباء مُتلوِّنَة في حياتي. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.