مرهج

مرهج

صبحي السلماني

اللوحة: الفنان السعودي عبد الله الشيخ

لم يكن بحاجة إلى من يخبره بأن مهنة العسكري المحترف هي الحرب، ولم تكن تنقصه الخبرة أو الشجاعة، من قبل خاض العديد من المعارك وخرج منها بصدر عامر بالأوسمة والنياشين. لكن قراءته للمستقبل وهو يفكر بمصير هؤلاء الجنود البواسل في حرب غير متكافئة، أكيد سوف تكون لها ارتدادات وشطحات وردود أفعال غير موزونة.

 حين أعلمه ضابط المخابرة بأن الأجهزة اللاسلكية بما فيها (الراكال) وال (B.l) جميعها توقفت عن العمل، هو نفسه لا يدري كيف سمح لنفسه أن يسأل مثل هكذا أسألة سخيفة:

مرة حين أعتقد بأن الأرض ربما تكون مقفوزة، وأخرى حين طرح موضوع التردد للنقاش . 

  • فرضية أن تكون الأرض مقفوزة ياسيدي غير واردة لأن الأجهزه كانت تعمل من قبل، وأما عن التردد، فقد تم التعاطي مع جميع الترددات المتاحة لكن دون جدوى… هذا ما قاله ضابط المخابرة لآمر التشكيل المثقل رأسه بالهموم!

وكان من الممكن أن يأتي على فرضية ثالثة لا تقل غباءً عن سابقاتها لولا إن ضابط المخابرة أراد أن يجنبه مزيداً من الأحراج.

  • أكاد أجزم ياسيدي بأن سبب التوقف هو التشويش الإلكتروني الذي فرضته قوات التحالف لتصبح جميع الأجهزة اللاسلكية خارج الخدمة!
  • في هذه الحالة يجب الأعتماد على المواصلات السلكية… كان رده. 
  • هذا مستحيل، أجاب ضابط المخابرة ثم أضاف: مد الأسلاك وأدامتها في بحر من الرمال المتحركة وكثبان متحفزة لطمر كل شيئ يعد ضرباً من الخيال.

عند هذا الحد يكون النقاش قد انتهى بعد أن اخلى ضابط المخابرة نفسه من المسؤولية. وطبقاً للتقاليد العسكرية لم يبق أمامه إلا أن يؤدي التحية العسكرية قبل أن ينصرف، تاركاً لرأيسه حرية التشاور مع هيئة الأركان اللذين أشاروا إليه فيما بعد، بضرورة الأعتماد على المعتمدين والسعاة.

لم يأخذ اختيارهم مزيداً من الوقت، ج. م مرهج واحد من بين اللذين وقع عليهم الأختيار. وهذا المرهج من سكان البادية وقد خبر الصحراء وتعفر برمالها، ويعرف إن لها دوامات حين تبرم، تحمل كل ما من شأنه أن يعترض طريقها. 

وحين وجدوا أنفسهم في هذا التيه وسط صحراء شاسعة القفر ومجردة من أي معلم بارز يساعدهم على تحديد المواقع ومعرفة الاتجاهات عبر وسائل الملاحة التقليدية المتمثلة بالخريطة العسكرية و(القنباص). واستقفلت عليهم كل الحلول، لم يجدوا إلا إياه خير دليل ومرشد، على طريقته التي تمتد جذورها إلى الموروث العتيق وما اختص به من فطنة، صار بإمكانه أن يحدد مواقع الكمائن، ويصاحب الدوريات بنوعيها القتالية منها والأستطلاع . 

لكن الذي جرى بعد ذلك أن طائرات التحالف بغياب الدفاعات الجوية التي أصبحت هي الأخرى خارج الخدمة، صارت تكثف من طلعاتها الجوية وتستهدف كل ما من شأنه أن يدب فوق الأرض وبالأخص الآليات العسكرية، ولم يعد بمقدورهم إيصال ماتيسر من أرزاق إلى الوحدات والوحدات المتجحفلة معهم.. حينها لا أحد يعرف كيف عنّت على باله فكرة الأستعانة بالإبل، لكنها عنّت، ونصحهم بأن يستعينوا بها! 

  • ماذا.. الإبل ؟! .. هه! 

ونحن في زمن العولمة وحرب النجوم لم يعد ينقصنا إلا الرماح والسيوف لكي نحارب! هذا ما قاله احد الضباط الرافضين للفكرة. 

صحيح ان الفكرة في بدايتها بدت غريبة ومضحكة ولم تحض بما يكفي من الترحيب.. 

لكن حين أتى بجمل من احد الرعاة وأسماه (هديب) تيمناً بأسم واحد من اعز اصدقاءه.. الموضوع لم يعد مجرد فكرة، وعلى قدر اعتزازه بهذا المخلوق الخرافي، لم يجد صعوبة في ترويضه، يأتيه جرياً حين ينادي عليه (دهو)، ويبرك على الأرض لمجرد أن يقول له (خياع)، وكان لوجوده أثر كبير في تقديم الدعم اللوجستي للقطعات. 

وعلى الرغم من الواجبات الكثيرة الملقاة على عاتق الرجل، لم يعدم الوسيلة لأيجاد فسحة من الوقت يلتقي خلالها بأفراد حضيرته ليطمئن على أحوالهم ويشاطرهم أطراف الحديث في الأمور العامة، وإما عن الخصوصيات فلكل خصوصياته، ولأعتقادهم بأن قلب الرجل قد من صخر وبالكاد يتسع لحب الخيل والإبل، في حضرته كانوا يتجنبون الخوض في الأحاديث التي تتمحور حول قصص الحب والغرام، ولم يخطر ببالهم يوماً بأن قلب الرجل معبأ بحب العنود.

وحين أعلنت ساعت الصفر وانطلق الهجوم البري لقوات التحالف من أكثر من محور، ليلتها كانت السماء معبأة بالطائرات القاصفة التي تلقي بحممها في كل مكان وأخرى تلقي بالمناشير التي تحث الجنود إلى ترك أسلحتهم والأنسحاب إلى ماوراء الحدود، وفي نفس الوقت صارت الصواريخ التي ترج الأرض رجاً تنطلق من البوارج الرابضة في الأبحر، والقواعد العسكرية المتواجدة في في بلاد المسلمين، وعن قصد أو دون قصد احترقت آبار النفط واختفت الشمس والنجوم خلف طبقة ثقيلة من الدخان واختلط الليل بالنهار، وصارت السماء تمطر ركاماً، وتوشح وجه الصحراء الرمادي وبدلات الكاكي والوجوه الآدمية وكل شيئ باللون الأسود، وصارت بعض القنوات تتحدث عبر أجهزة الراديو عن قصف طال القصور الرئاسية والمنشآت العسكرية ومصادر الطاقة الكهربائية والوزارات.. وأخرى تقول بأن عمليات إنزال لرجال الكوماندوز تجري خلف القطعات، وبدلاً من أن يتصدى رجال التوجيه السياسي للشائعات التي يتناقلها الطابور الخامس، كانوا منهمكين في حرق السجلات والملفات المتعلقة بالجنود الخاضعين للمراقبة او طمرها تحت الارض. ولأن القيادة واتخاذ القرارات في ظل غياب المواصلات صارت لا مركزية، وإمكانية تحقيق التماس على الأرض مع قوات تتسيد الجو ومدعومة بأحدث انواع التكنولوجيا العسكرية امر مستحيل.. بدأ الإنسحاب، وصار بعض الضباط يخلعون الرتب العسكرية من على اكتافهم ويدسونها في جواربهم وينصهروا مع الجموع المنسحبة.

ولأن سيل الشائعات ما فتئ يتدفق، ثمة اخبار أخرى صارت تتحدث عن أرتال من دبابات التحالف عبرت النهر وربما تكون العاصمة وجهتها الأخيرة، الأمر الذي أعطى مبرراً آخر للقطعات بأن تعجل في عملية الانسحاب، على الأقل كي يتسنى لها عمل خطوط صد في وجه القوات الغازية.

مرهج، أحد اللذين جرفتهم موجة الانسحاب، وصار مع رفيق له يتبادلان الركوب على ظهر هديب. بعد مسير يومين أدركا منطقة الأهوار مسقط رأس رفيقه.

الذي طلب منه أن يبق في ضيافته لبضع أيام حتى ينجلي الموقف. ركبا المشحوف بعدما أودعا هديب عند أحد (الجماسة)، ومن خلال مسالك تخترق غابات كثيفة من القصب والبردي أدركا جزيرة صغيرة، وهذه الجزيرة شأنها شأن غيرها من الجزر التي يتم استحداثها من خلال طمر حزم البردي بعضها فوق بعض، وعلى سطحها بضعة اكواخ هي الأخرى قد شيدت من القصب، في تلك الجزيرة التي لا يكاد يسمع فيها إلا حفيف القصب وطنين البعوض، كل شيئ يبدو هادئاَ ويسير ببطئ شديد.. المياه التي تنساب من حولهم، صيادوا السمك حين يجرون شباكهم، النساء التي تجدف للمشاحيف المعبئة بحزم البردي في رحلة الأياب، وحتى الشمس حين انزلقت إلى الغروب استقدمت اشعتها ببطئ شديد.

وهو الذي خبر ظهور الخيل والإبل وصحراء لا تكاد شمسها تغيب، حين وجد نفسه في جزيرة لا يتجاوز قطرها عشر وبضعة خطا والمياه تحاصر روحه من جميع الجهات، رغم حسن الضيافة، بعد يومين فقط قرر الرحيل ليجد نفسه وحيداَ مع هديب والبندقية العسكرية التي على ذمته. وحين أدرك أحد الطرق الرئيسية المؤدية إلى حيث لا يدري، انظم إلى اسراب الجنود التي تزحف كأسراب النمل.

على الطريق ثمة آليات عسكرية ومدنية محترقة وفي دواخلها جثث آدمية متفحمة، وأخرى لم تزل قيد الاحتراق، وفي مواقع أخرى جثث لجنود طالهم القصف أو سقطوا من الشاحنات التي تسير بسرع جنونية. ولكي يتفادوا الوقوع في الأسر بعض الجنود صاروا يستبدلون ملابسهم العسكرية بأخرى مدنية كانوا قد استحوذوا عليها من بعض البيوتات الأكثر قرباً من الطريق .

على ضفة النهر الذي أدركه في اليوم التالي، مئات وربما آلاف الجنود الوجلين يقفون في مواجهة الجسر المعطوب من وسطه نتيجة القصف، ولم يتبق منه إلا عارضة فولاذية بعرض نصف قدم وطول يربو على الأربعين قدم تربط بين طرفيه. ولأن سقف الشائعات بين لحظة وأخرى صار يرتفع، وصور الرئيس الممزقة والمرمية على الأرض صارت تذكي تلك الشائعات، بعض الجنود صاروا يتخلون عن ثيابهم وأسلحتهم ويعبرون النهر الذي بعرض ثلاثة أرباع الكيلو متر سباحةً.

وأما عن اللذين لا يحسنون السباحة أو الرافضين التخلي عن أسلحتهم، لم يبق أمامهم إلا المجازفة والمرور من فوق تلك العارضة اللعينة.. وهنا تسكب العبرات..! الشجعان يمرون، والجبناء يتعثرون ثم يسقطون ليبتلعهم النهر دون أن يكترث لسقوطهم أحد.

وأما عن مرهج الذي لا يحسن السباحة والرافض أصلاً لفكرة التخلي عن السلاح، وهو يطالع النهر ويضرب أخماس بأسداس كان يقول في داخله: أي قدر هذا الذي يسوق بدوي لم يشهد النهر إلا مرتين أو ثلاث مرات في حياته إلى الغرق، أليست هذه مخالفة صريحة لنواميس الحياة.. ولأن ليس لديه خيار آخر كان متيقناَ بأن الخلاص ليس بعب السجائر والوقوف متصنماً، وإذا كان قدره أن يموت غرقاً، كيف له أن يرد هذا القدر.. هي مجازفة!

لكن ماذا عن هديب؟!.. تسائل

ليس في وسعي أن أفعل أي شيئ حياله أكثر من حثه على الأنصراف والعودة إلى دياره.

لكن هديب الذي هاله منظر النهر والكثافة الآدمية التي لم يشهد مثلها من قبل، لسببٍ لا يمكن أن يكون إلا وفاءً منه لرفيقه الذي يحاول جاهداً إبعاده عن منطقة الخطر، في كل مرة كان يشيح بخطمه إلى فوق، ولكي يضع حداً لأية محاولة ناخ على الأرض وكمن لم يرغِ من قبل، رغى رغاءً استدر مدامع الرجل البدوى وتقطعت له نياط قلبه.

وحين أزفت ساعة الرحيل، طاف بيده على رقبته وربت على سنامه وقبله من خطمه!

آه ياصديقي..!

ليس بمقدوري أن أفعل شيئ أكثر من أن أودعك، كان بودي أن تبتعد عن منطقة الخطر وتعود إلى ديارك، لكن ماذا عساني أن أفعل حيال عنادك.

ولأن المخلوق هو الآخر استشعر بأنها لحظة وداع صار يبكي على بكاء سيده. وكانا من الممكن أن يبقيا على هذا الحال دهر من الزمن، لكن في حضرة الموت لامجال للعواطف. 

 خلع حذاءه ورفع سرواله إلى ركبتيه وشمر أكمامه حتى مرفقيه، ومن بين الجموع المحتشدة شق طريقه وانتظم مع المنظمين على شكل طوابير من بداية الجسر حتى العارضة، وكان يحرص أن لا يلتفت إلى الخلف لأنه يعرف أن كل التفاتة تعني محاولة يائسة للبقاء، ولم يدر بخلده ولو للحظة بأن (هديب) سينتفض من مثواه ويتعقب خطاه عن بعد. 

وكلما ازداد قرباَ ودنا، كلما ارتفعت الحناجر من حوله داعية ومتضرعة، وكأن رائحة الموت التي تزكم الأنوف والخوف المستتر في دواخلهم هما من أيقظا الإيمان في قلوبهم، وحين أدركها ووضع قدمه كي يمر، وضعها برباطة جأش وثبات وخطا الخطوة الأولى، ولكي لا يترك لشياطين الخوف فرجة تتسلل من خلالها إلى قلبه وهو (يحدو) خطا الثانية والثالثة ثم الرابعه.. وادرك المنتصف أو كاد. 

على حين فجأة وفي توقيت غير مناسب اخترق البرق صفحة السماء الرمادية وعصف مصحوب بالغبار والأشلاء الآدمية على أثر سقوط قذيفة في وسط منطقة التجمع، ونتيجة للارتجاج الناجم عن سقوطها اختل توازنه وتعثرت خطاه، وكفارس اسبرطي حياته ملتصقة على ذؤابة رمحه، وهو يحتضن البندقية التي تمثل الشرف العسكري، هوى من فوق العارضة، وقبل أن يحتضنه النهر ويطويه بأمواجه، كانت صدمته عظيمه وشعوره لا يوصف حين وجد (هديب) يطوح بجسده العظيم طائعاً من فوق الجسر..! 

وهو يغوص إلى قاع النهر بصمت وثبات وأيمان منقطع النظير، كان يشعر بالأسى ليس من أجل العنود التي سيطول انتظارها فحسب، بل من أجل رفيق الدرب الذي أبى إلا أن يشاطره ذات المصير.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.