رمضان في بنى مجد (1)

رمضان في بنى مجد (1)

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: الفنان التونسي مصطفى الدنڨزلي 

رؤية هلال رمضان

كان عدد أجهزة الراديو في القرية كلها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا أتذكر إن كانوا في ذلك الحين يذيعون خبر رؤية الهلال. ما أتذكره جيدا هو أن كل أطفال القرية كنا نتجمع عند الجامع الغربي، حيث يعتلي الشيخ سالم المئذنة، وننتظر قراره الأخير. ما إن يعلن رؤية الهلال حتى ننطلق جميعا نملأ شوارع القرية الضيقة المظلمة ضجيجا وحبورا. لابد من عودة إلى الشيخ سالم، رحمه الله، فهو شخصية لا يجود الدهر بمثلها إلا على فترات. تستطيع أن تقول إنه كان أهم شخصية في بنى مجد في الشهر الفضيل، كان النجم الذي يهتدى به الناس، فهو الذي يعلن رؤية هلال شهر رمضان، وهو الذي يبكي فيبكي معه الناس في العشر الأواخر من الشهر الفضيل، وهو الذي يصعد مئذنة الجامع الغربي بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من رمضان، فينتظره الرجال والأطفال على أحر من الجمر.

الشيخ سالم

لا أحد يدري على وجه اليقين ماذا كان يفعل الشيخ سالم بالضبط حين يصعد المئذنة مساء اليوم الأخير من شهر شعبان، فالرجل كان يرى – بالكاد –  مؤهلاته؟ كان، رحمه الله، طيب القلب، حافظا للقرآن الكريم، ذكيا بالفطرة، حاضر البديهة، أما نعمة البصر فقد حرم منها بشكل جزئي منذ صغره. لكنه على أية حال كان يعتلي المئذنة، وينتظره الناس على أحر من الجمر، رغم برودة الجو في تلك الليالي الشتوية. ماذا كان يفعل فوق المئذنة؟ سؤال لم يشغل بالى وأنا طفل، لكنني مشغول به الآن، أحاول أن أعثر على إجابة فلا أستطيع. عموما لم يكن أهل القرية في حاجة إلى بيان المفتي، فكلهم -بخبرة من يعيش في الريف على ضوء القمر- كان يستطيع بمفرده أن يراقب النجوم ويستطلع الهلال، ويعرف يقينا موعد بدء شهر الصوم. لكن الناس كانوا ينتظرون، وينتظرون. يصيح أحدهم في الأطفال الذين يلعبون حوله “هلا صبرتم حتى نسمع الشيخ سالم؟” فجأة يأتي صوت الشيخ واضحا جليا شجيا، أن غدا شهر الصوم. من أين جاء الشيخ بالمعلومة، وهو فوق المئذنة؟

الشيخ سالم وأذان الفجر

لا يمكن الحديث عن رمضان في بنى مجد أيام الطفولة دون ذكر الشيخ سالم، فلم يكن دوره يقتصر على رؤية هلال شهر الصوم، بل كان يتعداه إلى إحياء السهرات، ورفع أذان الفجر، وهي مهمة جليلة، تزداد خصوصية عندما يضطلع بها الشيخ. إذا كانت ساعة الحكم هي الميقات الوحيد للمباراة، كما كان الكابتن لطيف يقول، فإن الشيخ سالم، رحمه الله، كان هو الميقات الوحيد لأذان الفجر في شهر رمضان. كان يعتلي مئذنة الجامع الغربي في شموخ، والكل ينتظره. يتساوى في ذلك الغنى والفقير. دور البطولة يحتله الآن الشيخ سالم بلا منازع. عندما كان يهمّ برفع الأذان كان بعض من “لهم عشم” عنده ينادونه من تحت، ويرجونه أن يمهلهم حتى يشربوا جرعة ماء تعينهم على تحمل صيام اليوم الجديد “استنى يا شيخ سالم الله يخليك!”. كان بمقدور الشيخ سالم أن يوافق أو أن يرفض، فكان يوافق لأحدهم أن يشرب “بس بسرعة”، وربما كان يتجاهل طلب آخرين دون حرج. إنه الشيخ سالم. نواصل الحديث عن مظاهر الحياة في بنى مجد القديمة خلال شهر رمضان، وربما نعود إلى سيدنا مع أولى ليالي العشر الأواخر من الشهر الفضيل.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.