د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم
العفاريت
كانت مشكلة المشاكل بالنسبة لأطفال بنى مجد تتمثل في العفاريت، تلك العفاريت التي تظهر فجأة للأطفال إذا ساروا وحدهم ليلا في درب الكنيسة أو تحت السقيفة. هنا كانت العفاريت تظهر لهم على هيئة أرانب بيضاء تلمس أجسادهم. الاستثناء الوحيد كان شهر رمضان. تؤكد الجدة أن العفاريت تظل محبوسة خلال الشهر الفضيل، وأن الأطفال بإمكانهم اللعب في الليل دون خوف، والسير تحت السقيفة أو عند الكنيسة دون أن تظهر العفاريت. ولأن الجدات لا يكذبن فإن الطفل قد سار بمفرده ذات ليلة من ليالى رمضان، ولم يجد عفريتا واحدا. على أن العفاريت كانت تعود إلى شوارع بنى مجد الضيقة بعد أن يعلن الشيخ سالم ثبوت رؤية هلال شهر شوال. حينها يلملم شهر رمضان متاعه وينصرف، فتعود العفاريت إلى مواقعها القديمة، وترهب الأطفال إذا ساروا بمفردهم ليلا، أما لو سار الطفل مع أبيه فإن العفاريت تظهر من بعيد، لكنها لا تجرؤ على الاقتراب. يراها الطفل ولا يراها الأب. المناطق المحرمة في غير رمضان تصبح مزارا متاحا في الشهر الكريم، حتى للأطفال الذين لا يصومون.
المسحراتي
على خلاف مسحراتى القاهرة، الذي هو مجرد فلكلور، إذ ينادى على أسر مستيقظة عادة، فإن كلا من عمى عبد الصبور وعمى صدّيق، رحمهما الله، كانا يؤديان وظيفة حقيقية: كانا يوقظان النائمين بالفعل. أولا لأن الرجال كانوا يعودون من الحقل مرهقين، فكانوا ينامون بعد صلاة التراويح بقليل، حيث لا تليفزيون ولا وسيلة تسلية إلا الراديو، وهو جهاز في ذلك الوقت كان يعد ترفا، لا يملكه كل الناس. ولم يكن عمل النساء في البيوت أقل إرهاقا، فكانت المرأة تغالب النوم إلى أن تطمئن على عودة أولادها من الشارع، فتسارع إلى “سرقة” سويعات من الراحة قبل بدء اليوم الجديد. لذلك كانت البيوت تغط في نوم عميق بعد صلاتى العشاء والقيام، وكانت طبلة عمى عبد الصبور الضخمة كفيلة بإيقاظ الجميع. كان أحدهما “يطبّل” في الجزء الشرقي، بينما “يطبّل” الثاني في الجزء الغربي. عندما يلتقيان في وسط البلد تكون بنى مجد كلها قد استيقظت. كان أجرهما زهيدا: قليل من “الكحك” يوم العيد.
الاستيقاظ للسحور
في تلك السنوات كانت الحياة في بنى مجد صعبة: الرجال في الحقل طول النهار، تحت الشمس، والنساء في شغل البيت الذي يضارع أعمال الرجال، إذ لا تقتصر على تنظيف البيت وإعداد الطعام، بل تشمل أعمالا شاقة، أقلها تنظيف الأرض تحت الماشية والأغنام، وإعداد الوقود للخبيز، وغسل الملابس المتسخة جدا بدون غسالة؛ لكل هذه الأسباب كانت الأسرة -رجالا ونساء- تغط في نوم عميق بعد العشاء بقليل، يعقبهم الأطفال، وقد لفحهم برد الشتاء.
لا تستيقظ الأسرة إلا على صوت طبلة عمى عبد الصبور، وهنا تبدأ ملحمة أخرى: “تقمير” الخبز، وتسخين ما يلزم تسخينه، على “الكانون”، ما يتطلب تكسير الحطب والبحث عن الكبريت في الظلام، بجوار علبة سجائر الرجل. كانت المرأة تنتهى من إعداد طعام السحور فتوقظ زوجها أو أباها وإخوتها، ولا يخطر في بالها الأطفال. أما الطفل -الذى لا يصوم عادة- فكان يحزن لأنهم لم يوقظوه، فيتمرد ويرفض الاستجابة لطلبات الأم، فلا يذهب لشراء “المخلل” بعد العصر، أو الجاز لإشعال المصابيح. مشكلة تعلم بها الجدة والأب، فتقرر الأسرة إيقاظ الطفل في الليلة التالية، وهي عملية تستغرق وقتا قد يفوّت على الأسرة بكاملها تناول طعام السحور. يستيقظ الطفل كارها، لكنه يأكل وهو نصف نائم، ثم يعود للنوم وهو لا يدري ماذا أكل.
في صباح اليوم التالي يسأل أمه: هل أيقظتموني؟ هل تسحرت أنا؟. سؤال يعقبه بحث عن طعام يملأ المعدة الخاوية عند أذان الظهر، موعد انتهاء صيام الأطفال.