ذلك العيد!

ذلك العيد!

 محمد نديم علي

اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم

صبيان غريران يحملان بقية من نزق الطفولة، وفي يوم عيد، وما أدراك ما العيد. وفي جيوبهما غير قليل من مال، يمكن أن يحوزه صبيان مثلهما.

 ساقتني قدماي ورغبتي، ومعي صديقي دسوقي، وكنا في أوائل سني المرحلة الإعدادية، إلى التنزه والتمتع بأول أيام ذلك العيد، بعيدا في مكان جديد. والاستمتاع بالفتك بما تيسر من عيدية، فهربنا من باقي الشلة.. وامتطينا قطار الضحى الى مدينة طنطا التي تبعد عن مدينتنا نصف ساعة أو تزيد قليلا بالقطار.

وعند الضحى، كان أن هبطنا بسلام من الله وبركات على حي السيد البدوي. 

أفضيت لصديقي بأن نتناول إفطارنا في ذلك المطعم الذي تتناهى منه رائحة الطعمية اللذيذة الى خياشيمنا، غير ان صاحبي أصر أن يشدني نحو مجموعات من الرجال والنسوة يقدمون الألعاب والجوائز في أكشاك متراصة، إلى جانب المراجيح المزخرفة الممتدة أمامنا، يلتئم أمامها البنات والولدان بملابسهم الجديدة الملونة.

– يا صاحبي لسنا صغارا، فإلى أين أنت ذاهب بنا؟

– إلى ذلك الرجل القابع في ركن عمارة على رصيف الشارع.. أمامه عمود وطاولة، يمتد ذراع خشبي من ذلك العامود الى منتصف الطاولة، يتدلى منه خيط ينتهي الى كرة خشبية صغيرة، في مركز الطاولة، يقف تمثال خشبي صغير. 

عليك بدفع الكرة وتنشن على التمثال فتسقطه، وتدفع خمسة قروش لكل دور من أدوار اللعبة، كي تحصل على جنيه كامل؛ إذا نجحت في إسقاط ذلك التمثال الصغير. 

استهوتنا المغامرة، ودفعنا الطمع إلى المشاركة.. أعترف بأن صاحب اللعبة كان أمينا معنا.. لأنه أدار الكرة عدة مرات أمام أعيننا بحرفية ودقة، وكان من الطبيعي أن يسقط ذلك التمثال الصغير، وشعرنا ان اللعبة سهلة فدفعنا القروش تلو القروش، وأدرنا الكرة عشرات المرات؛ إلا أن الكرة كانت تدور عدة دورات، بعيدة تماما عن ذلك التمثال القميء، الذي ما تحرك قيد أنملة ولا اهتزت له قامة، إذ وقف شامخا متحديا تسرعنا ومستهزئا بسذاجتنا وتهورنا، ساخرا من طمعنا، وكان أن خسرنا مبلغا لا يستهان به في غضون دقائق قليلة، ونحن ما زلنا في أول الرحلة، في ضحى ذلك العيد السعيد.

 واستمر الطمع في دفعنا نحو مزيد من المغامرة؛ فاندفعنا نبحث عن لعبة أخرى من الألعاب المنتشرة على طول الشارع، فإذا برجل، بدا كساحر شرير، ذي وجه ممصوص، وأنف معقوف، تحته شارب كث، ورقبة طويلة، يصيح بصوت مشروخ:

– افتح كيس بربع جنيه وخذ ما بداخله.

تهافت الناس يمدون أيديهم لرجل ممسك بلفافة من الورق بيد، وسكين باليد الأخرى.. يمزق بطن اللفافة الورقية فإذا هي تحوي مبلغا كبيرا من العملة الورقية، يأخذها اللاعب ويمضي مسرورا.

فاندفعنا بغباء السذج وشهوة الطامعين. كان الرجل يسحب منا الجنيهات بسهولة ويسر ونحن كالمغيبين، لا تقع أعيننا سوى على بطن اللفافة الذي يمزقه الحاوي بسكينه.. فتبرز منه الأوراق المالية وكأنها تغيظنا وتغرينا.

استمر الرجل في ضرباته المتتالية، للفافة وراء لفافة ويقول إنها أعداد زوجية، يجب أن تدفعا الضعف، كي نفتح لكم كيسين آخرين. ظل على هذا المنوال.. يسحب جنيهاتنا، ويضاعف الرقم ليضاعف الأكياس المفتوحة، وأعيننا المغيبة تتلمظ على كم الأوراق المالية الذي تراكم على الطاولة.. وعندما تأكد أن جيوبنا قد خلت من كل نقود، حتى صاح.. آخر لفافة يا شباب، يا راحت يا جت. وأنت وحظك.!

 هوب.. وهوى بسكينه على طرف اللفافة الأخيرة، وهوت معه قلوبنا الواجفة، وأعيننا الزائغة، ونفوسنا الطامعة، فاذا هي فارغة لا تحتوي إلا أوراق بيضاء لم تسر الناظرين.

أسقط في أيدينا، وزاغت أبصارنا، وبلغت قلوبنا الحناجر.. ولا يمكنني أن أصف لكم مدى الغصة وقسوة الصدمة على نفوسنا، ناهيك عن شعور الذل والمهانة ونحن نتسول من الرجل بعض قروش ثمنا لتذاكر قطار العودة لمدينتنا الجميلة.

 تخلصنا بالكاد من أيدي البلطجية والسوقة إذ كادوا أن يفتكوا بنا، إذ اكتشفنا بأنهم كانوا هم أنفسهم من مثلوا دور اللاعبين والطامعين مثلنا، غير أن الرجل أشفق علينا.. ربما، والقى إلينا (ريالا) بعشرين قرش وكم هائل من السباب، مودعا إيانا بما لا يستهان به من ركلات كي نبتعد عنه، وقد سلبنا ما يزيد عن الخمسة عشر جنيها.

كان الجوع قد تملكنا، والهوان يملأ نفوسنا، وافتقدنا حلاوة العيد يومها، فلم أفرح بملابس جديدة قد ارتديتها، ولم أسعد بحذاء لامع انتعلته، ولا بعيدية قد أخذها الغراب وطار، ورحنا نتلاوم ونقرع بعضنا بعضا، غير أنا قد هدأنا قليلا حين استقر بنا المقام في مقاعدنا في ذلك القطار الذي انتظرناه طويلا. إذ لم يكن بمقدورنا أن نفعل شيئا سوى الانتظار على رصيف المحطة، ونحن جوعى لا نملك ما يسد حاجتنا من طعام أو شراب.. وأي نفس تهفو لشيء من هذا في ذلك اليوم الحزين.

لزمت بيتي حزينا ملوما محسورا، كاتما لسري وسبب حزني، غير أن فرج الله كان دائما قريبا مني، إذ زارنا خالي العزيز؛ وأتحفني بعيدية كانت خير عوض عن ثروتي المفقودة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.