كفاية كده

كفاية كده

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الأميركي أليكسندر أرشانسكي

رنين جرس الباب لم ينقطع قبيل المغرب، كانت الشمس لا تزال تجاهد في الفرار للعالم الآخر، كنت على وشك أن أسند رأسي خلف جدار النوم العميق. أزعجني الرنين، فنهضتُ وأنا ألعن بسرّي من يصرّ على فعلته السمجة في مثل هذا الوقت.

فلمّا فتحت، وجدتني أمام عينين رائعتي الجمال، واسعتين، سوداوين، يستقران على وجه خمري اللون، سماته خليط من توحّش بريّ وأنوثة كامنة بالأعماق.

كانت المرأة تنظر إليّ بترقّب وعلى شفتيها ابتسامة غامضة، خلفها سبقها لسانها بلهجة ريفية متأصلة، بعبارة: “أشوف لك البخت يا أستاذ”، دونما إذن منّي أو موافقة على طلبها قعدت على الأرض وألقت من فوق رأسها “ببقجة” صغيرة، أخرجت منها منديلًا، افترشته أمامها، ثم قَبَضَت قبضة من رمل وألقته عليه، خلفه نثرت بضع قواقع متباينة الأحجام، أمسكت واحدة منها متوسطة الحجم وأنا لا زلت نصف نائم، أنظر للمشهد كأنه بقايا حلم، ثم ناولتني إياها وقالت بلهجة جادة: “وَشْوِش الدكر”.

فأمسكت القوقعة، هززتها كأنّي أزنها، قرّبتها من أذني فخُيِّل إليّ أني أسمع صوت موج بحر يأتي من بعيد. قربتها من أنفي أتشمّمها ولا أعرف لمَ! لكن أجزم أن رائحة يود نفّاذة تسلّلت إلى أنفي، حينها غلبني النوم فتثاءبت.

لكنها أسرعت ونهضت، نزعتها من يدي بسرعة وقالت: “كفاية كده”.

ثم عادت وانكفأت على حالها، تعَبَث بالرمل والقواقع بيمينها، تقلّب فيهم وتنظر إليهم ثم تفعل ما فعلته مرة ثم مرّات، علامات الجد والتجهم تكتسي وجهها الدقيق، وأنا أمامها أكاد أتداعى في وقفتي، يدي مستقرة على فمي وعينيّ على وشك أن تنطبقا على بعضهما.

 بعد برهة رفعت رأسها إليّ و قالت بحزم: “قدامك سكة سفر”، مبارك.. وقبل أن تُكمل نبوءتها أجبتها: الله يبارك فيك، أغلقت الباب بوجهها، ثم عُدت إلى سريري .

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.