حنان عبد القادر
اللوحة: الفنان النمساوي لودفيغ دوتيش
في فورة مراهقتي، كان نهم القراءة يقتات على جسدي، وكانت الأفكار شاردها وواردها تحلق في سموات عقلي، وما كنت أتورع أبدا عن مناكفة معلميَّ بالأسئلة وكثرة الاستفسار، فيصد الكثيرون، وتبقى القلة الواعية منهم توارب لي الباب لأدخل إلى عالم الاستكشاف بذاتي، فيحسنون بذلك إقناعي ويستطيعون استئناس أفكاري.
ذات درس عقد لنا المعلم مقارنة بين فكر الأئمة الأربعة بعدما درسنا فقههم جميعا، مبينا ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه من أحكام، وأن منهم من تشدد في أمر بينما تخفف فيه الآخر، ولم يكن لديه من رد منطقي يبرر سبب هذا الخلاف، فسألته: هل كل ماذهبوا إليه صواب رغم الخلاف بينهم؟، فأجاب: نعم.، قلت: إذن فهل لي أن أتبع ما اتفقوا فيه دون تفرقة، ثم أنتقي ما يتفق مع قناعتي العقلية وما تميل إليه روحي مما اختلفوا فيه؟، قال: لا، إن اتبعت إماما ينبغي أن تأخذيه كله دون خروج على ماقال، وتلتزمي بتطبيق ما جاء به من أحكام سواء رضيتيه أم لا.
قلت: وهل لزاما علينا أن نتبع هؤلاء الأئمة وما ذهبوا إليه؟، قال نعم، لذا تجدين أناسا يتبعون مذهب مالك، وآخرون يميلون للشافعي، وغيرهم لأبي حنيفة أو ابن حنبل.
قلت: لقد تعلمت علي أيديكم أستاذي أن ثمة رجل واحد اصطفاه الله بالرسالة والوحي، وألزمنا بطاعته واتباعه، فلم تضع هؤلاء الأئمة الفاضلون في مقامه وتلزمني باتباعهم رغم إجلالي لهم جميعا وتقديري لما قدموا للإسلام؟
قال: معاذ الله أن نضعهم في مقام رسولنا الكريم، بل هم مجتهدون قد حسن اجتهادهم، ونحن إنما نتبع ما جاءوا به من اجتهاد يفسر لنا أمور الدين وييسر علينا فقهه.
قلت: فما الغضاضة إذن من أن آخذ أحكام الصلاة من مالك، وفقه الزواج من أبي حنيفة مثلا، وأنتقي ما أراه ييسر علي أداء عبادتي بما يتوافق مع قدرتي وقناعتي؟!
قال: قلت لك إن هذا لا يجوز، إن اتبعت إماما فينبغي أن تأخذيه كله دون فصال.
قلت: لم أستاذي؟!، وقد أكدت منذ قليل أنهم ليسوا في مقام رسول الله، فما ذهبوا إليه محض اجتهاد أجادوا فيه بفضل من الله، لكنه ليس وحيا من السماء وجب فيه السمع والطاعة؟!، وقد علمنا رسولنا الكريم أن الدين يسر، فلم لا آخذ ما يسروا فيه على المسلمين من أحكام، ونحن جميعا في أول الأمر ونهايته وجهتنا ومرجعنا كتاب الله وسنة رسوله؟!
قال: يابنت، لم تجادلين هكذا وقد نهينا عن الجدل، ألا تستوعبين ماقلت؟، اصمتي واجلسي ونفذي ماقلت وإلا دخلت في كفر والعياذ بالله.
قلت: أستاذي الكريم، هي محض أسئلة تدور حيرى في ذهني، وددت أن أجد عندك ظلالا تستأنسها، ولم أكفر بالله حين سألتها، وإن كان قد ظهر من القدماء أئمة اجتهدوا فأحسنوا، فلربما يخرج منا من يقاربهم علما وفقها، فهل ستتبعه الأجيال ويقولون نحن على مذهب فلان مثلما يقول الآن أتباع مالك أو ابن حنبل، بينما نحن وهم جميعا على مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فضلهم الله بالعلم والتفقه في الدين؟!
أمثال هذا المعلم يدفع أجيالا نحو التقليد الأعمى دون إعمال عقل فيما يعن لهم من تساؤلات تدفعهم للإبداع فيقودون ركب الحضارة الذي سادت به أمة الإسلام العالم في الماضي، أمثاله يغلقون أبواب المعرفة أمام الطموحين متناسيا أنه لكي أكون مؤمنا مستنيرا ينبغي ألا يبنى إيماني على التقليد والطاعة العمياء، بل يبدأ بالتفكير والاقتناع.
ولنسأل أنفسنا: ماقيمة اعتقادٍ بنيَ على تقليد ولم يعمل صاحبه فيه فكرا؟، مثل ذلك لا يقود ركبا ولا يحسن رأيا، هو محض تابع يقاد ولا يقود، يعيش إمعة لا رأي له، فلا يتبع ما يؤمن به ضميره، ويصبح لعبة في يد من يملك فكرا منطقيا مسيطرا حتى لو تنافت مع جوهر الإيمان طالما أحسن تقديمها له في ثياب مراوغة، وقتها سينقاد له دونما تفكير.
ماذا لو فتحنا الأبواب لشبابنا الواعي ليسأل ما شاء، ويبحث عما شاء؟، ماذا لو علمناهم أن السؤال باب المعرفة، وأن الطرق عليه بل وولوجه ليس محرما ولا معيبا؟، ماذا لو دفعناهم للاطلاع والبحث، واستطعنا استيعاب أرواحهم المتوثبة تاركين لها المجال أن تعرب عن كنهها دون إحباط؟، ربما تغير وجه تاريخنا، واستعدنا بريق هدايتنا.