اللوحة: الفنان المصري محمد رضا
“علي البهلوان”، اسم يقترن بصفة، لا أحد يجهله في “دحدورة هدى”. ماهر في عمله حتى أن الجميع يشهد له بالكفاءة والمهارة، فإن كان الراقص على الحبال يمسك عصًا طويلة كي يضبط توازنه أثناء مشيه على الحبل، فإن “علوة”، كما يحُب هو أن ننعته يحمل فوق رأسه طاولة خشبية تقارب الثلاثة أمتار طولًا ونصف المتر عرضًا، يرص عليها أكياس “العيش الفينو”، من مخبز “المنشية”، يضعها فوق رأسه ثم يقفز على دراجته “النصر”، ينطلق بين شوارع وحواري “الفوّال”، لتوزيع حمولته على محلات البقالة. هو في رحلته “بهلوان” لم يختل توازنه قط، كما لم يطرف له جفن أو تضطرب قدماه في تبديل حركة الدراجة.
تبدأ رحلته اليومية عقب صلاة الظهر من محل عمله، يتلوّى بمهارة بين السيارات، يتجاوز إشارات المرور الحمراء كهواية يمارسها أثناء عمله، يعرف أماكن المطبّات الصناعية والطبيعية، الحفر و جراكن الأسمنت التي يضعه أصحاب السيارات أمام العمارات لحجز أماكن بيات عرباتهم، يتفادى عربات الكارو التي تقطع الطرق السريعة بالعكس فجأة أو تغيّر وضع سيرها دون تنبيه مسبق.. كل ذلك يفعله “علي”، كمن يحفظ دستورًا عن ظهر قلب، يرتّله وهو مغمض العينين، حتى أنه راهن أقرانه بالمخبز غير مرة أنه قادر على قيادة دراجته وحمولته فوق رأسه وهو مغمض العينين.
هو الآن كهل يقترب من الخمسين من عمره، شاحب الوجه، ضامر الخدّين، يتسلل البياض إلى شعره بوقاحة يراها كل من يدنو منه. أربعون عامَا انقضت في عمله هذا، كان يتفاخر بين الجميع أنه الوحيد الذي لم يحصل على اجازة إلّا ما تسمح به الأعياد الرسمية أو صاحب المخبز على مضض.
بالأمس انطلق “البهلوان”، بدراجته، تستقر طاولة الخبز على هامته، شق شارع الحرية من نهايته عند كوبري “مرزبان”، ثم انحدر بسرعة إلى ” كوبري الشيخ سالم”، ثم لوى عنق دراجته بقوة ناحية اليمين، قبيل أن يفيق مما حدث، كان يحتضن الأسفلت وبضاعته ملقاة بنهر الطريق، دراجته جواره، والطاولة غير بعيدة عنه. تصاعدت أصوات تحوقل من حناجر اجتمعت حوله: لا حول ولا قوة الاّ بالله، قم يا علي، “إيه اللي جرالك”!
– بسيطة يا بني، أول مرة تقع بهذا الشكل، لا يقع إلاّ شاطر!
– أصابتك عين أم كبر السن أحكم لفّ حبله حول رقبتك؟
تناثرت عبارات مواساة، تمتزج بإيقاع ارتطام الكفوف ببعضها البعض. على مقربة منه التفّ صبية لجمع ولملمة أرغفة الفينو من الأرض، وإعادة رصها من جديد على الطاولة الخشبية.
نظرة الكهل لم تختلف عن الآخرين فقد حملت من الدهشة والحسرة الكثير، حتى أنه لم يتمكن في البداية من الامساك بيد “جورج”، صاحب حانوت صغير لتصليح الأحذية، مد يده لمساعدته قائلًا: انهض، كلنا مررنا بمثل ما لحق بك الآن. ما بك؟ تريد شربة ماء؟
كأنما بينه وبين الناس من حوله جدار من زجاج، يراهم لكن تصل إليه أصواتهم من بعيد كهمهمات تختلط ببعضها. أحكم قبضته على يد البقّال حتى وقف على قدميه، نفض بيسراه ما لحق ملابسه من أوساخ وتراب، تمعّن بعين قلقة في دراجته الملقاة بعرض الشارع كجثة، طاولة العيش، تفقّد العدد فوجده مطابقًا للمدوّن في دفتره الورقي الموجود بجيب بنطلونه الخلفي، بعدها استدار للجمهور دورة شبه كاملة حتى التقت عيناه بعينيّ جورج، قال: عاوز أستريح.
