اللوحة: الفنان المصري محمود محمد عفيفي
د. حمدي سليمان

لم تكن المقاومة بالشيء الجديد على شعب منطقة قناة السويس بشكل عام ولا على أبناء مدينة الإسماعيلية بشكل خاص، فقد كانت سلاحهم الذى غير خريطة الشرق الأوسط في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى ذروتها في 50/1951 وهى التي عجلت بثورة يوليو، نعم مقاومة الفدائيين في القناة من ابناء مصر الذين اتو من كل ربوعها، وعلى اختلاف فئاتهم لينضموا الى اخوانهم من فدائي الاسماعيلية هي التي أخرجت الانجليز وأجبرتهم على الجلاء ومن هنا سقطت الإمبراطورية التي لا يغرب عنها الشمس، وتبدلت مراكز القوى في العالم.
لذا كانت الحروب والمواجهات والمقاومة هي أمور اعتاد عليها أبناء المنطقة منذ الاحتلال الانجليزي والحرب العالمية الأولى والثانية ثم تمركز الجزء الاكبر من قوات الاحتلال في الإسماعيلية (فايد – معسكر الجلاء)، لقد أجبر شعب الإسماعيلية على التهجير والشتات مرات عديدة، وفى كل مرة كان التهجير يقتصر على النساء والشيوخ والأطفال أما الرجال ومن لديهم القدرة على القتال فاختيارهم كان دائمًا المقاومة حتى الموت، فهم حراس الوطن وقلبه النابض وخط دفاعه الأول.
يقول عنهم فتحي رزق: هؤلاء هم المصريون أبناء المواجهة وأصحاب الأرض..لقد هبوا على قلب رجل واحد فى محاولة سريعة لتمضيد جراح الوطن منذ الأيام الأولى للهزيمة،إنها يقظة الناس السريعة لمواجهة الخطر.
إنها روح المقاومة التي تستيقظ أكثر مع كل صباح، لقد تدفقت روح نضالية في شرايين أبناء المدن والقرى أشعلت ظلام الليل بضياء الوطنية المصرية.
كان رد الفعل فى الإسماعيلية وأبو صوير والتل الكبير والقصاصين والقنطرة غرب ونفيشة والمحسمة والسبع أبار والمنايف وأبو عطوه واحدا…نسيج المعركة البطيئة تغير – بعد 3أيام فقط –إلى حركة نشيطة دافقة بروح الوطنية المصرية التى تيقظت بقوة عظمى تواجه مشاعر المرارة والإحباط والهزيمة في كل قرية وكل حي.. اجتمع الرجال فى حوار ساخن قاس مع ممثلي الاتحاد الاشتراكى، الذين هم من أبناء هذه القرى…حساب عسير ومرير للقيادة المركزية والقيادة السياسية والقيادات العسكرية والقيادات المحلية..ما كان يجب أن يحدث ما حدث.. لكنه حدث.. في نهاية تلك الاجتماعات الملتهبة بالرفض والرجاء التي يسمونها ندوات اتفق الجميع على ان وقت الحساب ليس الان، فلتكن المقاومة اولا.. ووقف كل مواطن ليقدم بعض ما معه – وأحيانا كل ما معه تبرعا – للقوات المسلحة، وكان أكثر ما سمعته وأبكاني بشدة، أن وقف رجل عجوز وقال بصوت قوى النبرات: إننا لم نشارك فيها..فربما تغير الموقف.. لقد قابلت الانجليز هنا سنوات طويلة وانتصرنا عليهم..وإنني اقدم نفسى وأولادي للمشاركة في الحرب حتى يموت كل أفراد الأسرة، وأؤكد لكم
جميعا أننا سوف ننتصر في المعركة القادمة.. لأنها ستكون معركة حقيقية وسوف نأخذ بالثأر وترتفع الأصوات تريد التبرع بالدم..تريد التطوع لحمل السلاح..والتدريب على المقاومة الشعبية للدفاع المدني..لفرق الإنقاذ، ونفس الصورة في وحدات الإنتاج..في المصانع..في الشركات والمصالح..في مجالس المدن والقرى فى كل مكان..مواطنون من كل مكان..في القرى والمدن يعلنون استعدادهم للمساهمة بالأرواح وبالدماء..ويسألون: أين يقدمون تبرعاتهم، وأين يتبرعون بالدم..وأين يسجلون أسماءهم للاشتراك في كتائب المقاومة
بل كان التبرع للمجهود الحربى أيضا من أروع اشكال المقاومة لا عادة بناء الجيش المصري والانفاق على المقاومة..تاريخ مشرف لكل ابناء الشعب في هذا المجال وفى طليعتهم العمال البسطاء الذين تبرعوا بجزء من مرتباتهم والمزارعون الذين اتخذوا قرارات مع الجمعيات التعاونية الزراعية بالتبرع بمبلغ جنيه عن كل فدان، تجار وموظفون وأصحاب المهن الحرة كل الطوائف الأطفال والنساء..لم يبخل أحد فقد كانت ملحمة أخرى سطرها المصريون في تاريخ نضالهم من أجل الحياة الكريمة.
الجيش والمقاومة
يحسب للقيادة العسكرية الجديدة بعد هزيمة 67 أنها استطاعت أن تعيد تنظيم الجيش في فترة قصيرة وأنها اتخذت أماكنها على خط المواجهة والقتال رغم إمكانياتها الفقيرة فقد نقلت للشعب كل روح المقاومة وأعادت الثقة مرة أخرى للجندي المصري وربما يكون من العوامل التى ساعدت على هذا التوسع الكبير في تجنيد المؤهلات العليا والمتوسطة وهو ما ساهم بشكل كبير في إعادة بناء القوات المسلحة المصرية، فلقد أسهمت هذه العناصر الشابة المؤهلة إسهاما فعالا في سرعة إقامة البناء بما بذلته من جهد متصل وتدريب شاق وسرعة فى الاستيعاب مع تقدير كامل للمسئولية، كانت جمعيها حوافز لتحقيق ذلك الجهد الجبار الذى سوف يذكره التاريخ بكل فخر لقواتنا المسلحة وللمقاومة الشعبية في منطقة القناة والذى بدأ منذ الأيام الأولى لهزيمة 67 واستمرت تجلياته تدهش العالم حتى توجه الجندي المصري في 1973 بانتصار حقيقي أخرس كل الادعاءات الأسطورية عن قوة وجبروت الآخر البربري.
في مديح عبد المنعم رياض
مربكة تلك الأوامر التي يتم التعامل معها بجملة واحدة فقط ” تمام يا افندم “،أي نمط من البشر تصنع تلك الأوامر، وأية إبداعية يمكن أن تنفذ لهذه العقول، ببساطة شديدة لم يفكر الجندي الصغير أنه في إمكانه إنقاذ قائده، إذا ما توجه مباشرة إلى المستشفى العام، أمتار قليلة تفصل بين المستشفى و مبنى المحافظة التي اختار الضابط الصغير أن يتوجه إليها أولا ليأخذ الأوامر من المحافظ، وربما لوكان تصرف هذا الضابط بشكل طبيعي وتلقائي بعيدا عن الأوامر لكان عبد المنعم رياض القائد الشجاع كتب له عمرٌ جديد، لكنها الأقدار وما تخبئه..
يقول فتحي رزق عن ذلك اليوم إنه يوم لا ينسى، كان شبح الموت يلف كل شيء بلون أسود.. بينما بدأ الليل يفرض سيطرته الشاملة على السماء والأرض وكل شيء.. ويتحول لون السماء الرمادي الداكن في تلك اللحظات.. إلى اللون الأسود تدريجيا.. ورأيت على البعد سيارة ” جيب “صغيرة تقترب… لست أدرى، ما حدث ولكن خيل إلى أن السيارة الصغيرة تسير بطريقة غير عادية كأنها تترنح، وعندما وصلت السيارة إلى مبنى المحافظة توقفت…ثم تقدمت فجأة نتيجة لخطأ قائدها… فاصطدمت بعمود الكهرباء المواجه لباب الدخول الرئيسي لمبنى المحافظة… واتجهت ببصرى نحو باب السيارة المغلق الذى فتح بصورة غير طبيعية، وجاء صوت ينتحب من داخل السيارة وهو يسأل… أين مبارك رفاعي المحافظ؟ واستطرد الصوت بنفس الصوت الباكي المفزوع… أرجو إبلاغه أن الفريق عبد المنعم رياض معى فى السيارة وهو مصاب إصابة خطيرة… وأسرع أحد العاملين فى المحافظة – كان واقفا أمام الباب – إلى الداخل وهو يردد.. لحظة واحدة.. بينما وجدتني أسرع نحو باب السيارة وأنظر إلى الداخل.. فوجدت ما جعل الدم يتوقف في عروقي.. كان القائد المصري العظيم في غيبوبة كاملة.. والدماء تنزف من كل مكان في جسده.. وأنفه وفمه تخرج منهما خيوط الدم بلا توقف.. وكان يجلس إلى جواره – في حالة إعياء شديد – أحد القادة العسكريين المسئولين عن قيادة القطاع الأوسط في المنطقة رقم 6 المواجهة للإسماعيلية.. وكان مصابا في ساقيه إصابات سيئة جدا.. ولم يكن يستطيع هو الآخر أن يتحرك… وإن كان قد حاول التحدث أكثر من مرة… بعد لحظات وجدت المحافظ والمهندس مشهور أحمد مشهور قائد المقاومة الشعبية يسرعان من داخل المبنى إلى السيارة التي لاتزال تواجه عمود الكهرباء.. ونظر المحافظ إلى الفريق عبد المنعم رياض قائلا… ألف سلامة يا عبد المنعم… سلامتك… خير إن شاء الله
ووجه حديثه في نفس الوقت إلى الضابط الكبير المصاب والمرافق لرئيس الأركان.. خير يا عدلي.. إيه اللي حصل.. إزاي ده حصل… ولم يتلق المحافظ ردا… فأعاد كلماته
بصوت مبحوح باك… عبد المنعم.. انت بخير…سلامتك.. رد على يا عبد المنعم…وفتح عبد المنعم رياض عينيه لحظات ونظر إلى الجميع وهز رأسه بصعوبة شديدة.. هنا جاء صوت المهندس مشهور أحمد مشهور محذرا.. علينا وبسرعة نقله الى المستشفى العسكري أولا.. وطلب المحافظ من سائق السيارة المضطرب – وكان برتبة رقيب – أن يتحرك الى الخلف ويعدل وضع السيارة وينطلق الى المستشفى، وعندما تحركت السيارة تساقطت دماء الفريق رياض على أرض الرصيف الذى كانت السيارة قد توقفت فوقه عندما اصطدمت بعمود الكهرباء.. تساقطت كميات من الدم في لحظات.. ويضيف رزق قائلا: أحسست ساعتها بأن الدماء تنزف من قلبي.. ووجدت الجميع يبكون في صمت، واكتشفت أنني الآخر أبكى دون أن اشعر بالدموع المتساقطة… وأسرع المحافظ وقائد المقاومة الشعبية خلف السيارة الصغيرة التي انطلقت غربا وهذه المرة كان السائق يسابق الريح…
رياض يا حبيب الملايين
يقول فتحي رزق لم أستطع البقاء في مبنى الحاكم العسكري، وأسرعت إلى قيادة المقاومة الشعبية في مبنى التنظيم السياسي، حيث كانت الاتصالات من هناك أسرع وأشمل… وبعد دقائق كنت هناك… فلم يكن من الممكن الانتظار أكثر من ذلك… لأنه من الضروري أن أعرف (كلمة السر) للسير ليلا.. ولم يكن مسموحا باستخدام السيارات في شوارع المدينة أثناء الليل، هناك وجدت النبأ المشئوم قد أصبح معروفا لكل القيادات العسكرية والمدنية… كان الجميع يجلسون والكآبة والفزع والإحساس بالخسارة الفادحة ترتسم على كل الوجوه…يتبادلون نظرات صامتة.. وفى الدقائق التالية كانت الأيدي تمتد إلى أجهزة التليفونات للاتصال بمستشفى الميدان العسكري للسؤال عن حالة رئيس الأركان، وكان الرد يأتي شديد الاقتضاب.. نحن نحاول.. رجاء عدم الاتصال الآن.. وفجأة اتجهت كل الأنظار نحو باب الغرفة الكبيرة التي كنا نجلس فيها.. حيث دخل قائد المقاومة الشعبية وحده.. وتعلقت العيون بالرجل الذى قال وهو يحاول أن يبدو فى أقصى درجات الهدوء.. إنه في غرفة العمليات ومعه أطباء الجيش وعدد من أكفأ أطباء المدينة الذين استدعوا على وجه السرعة… الأمر الآن بيد الله، هنا طلبت من قائد المقاومة أن أحدثه منفردا… دخلنا غرفة أخرى… سألته.. ماذا حدث.. هل هناك أمل فى إنقاذ القائد العظيم..؟ أجاب بصوت مخنوق: لماذا هذه الاسئلة الآن.. إن الرجل يموت.. غير أن علينا أن نطلب من السماء أن تحنو عليه وعلينا، وأن ينجو.. المسألة تحتاج إلى معجزة.. إن البشر يحاولون الآن.. مرت الدقائق ثقلية.. مملة.. قاسية.. وأحسست بأن مشاعر الجميع واحدة تتأرجح بين اليأس والرجاء.. وكل منهم غارق في طوفان من مشاعر الحرب والموت والثأر.. دق جرس التليفون في رنين متواصل.. رفع قائد المقاومة الشعبية السماعة.. ووضعها دون أن يرد على المتحدث.. ووقفنا جمعيا ننظر اليه.. وجاء صوته باكيا.. يا خسارة.. رحمة الله عليك.. يا بن مصر.. الله يرحمك
يا رياض.. في نفس اللحظة.. دخل الغرفة المحافظ الذى عاد من المستشفى العسكري.. كانت الكارثة ترتسم على وجهه.. بينما آثار الدموع لاتزال في عينيه.. وجلس في يأس قاتل وهو يردد: لقد كنت معه، ليلة أمس.. تحدثنا طويلا، ثم تناولنا العشاء.. طلب مني النوم معه وحاولت الاعتذار فرفض..قضينا أغلب ساعات الليل نتحدث..تناولنا طعام الإفطار معا وتركته لعمله..فقد كان يريد المرور على المواقع الأمامية.
ويضيف باكيا إنه كان الوداع..إن صداقتنا قديمة..كان أستاذا وعملاقا وعسكريا فذا.. إن خسارتنا فيه لا تعوض.. مصر خسرت واحدا من أعظم أبنائها.
بعد دقائق جاء صوت المذيع من إذاعة القاهرة.. ينعى إلى الأمة استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس هيئة الأركان المصري.. نعم استشهد البطل والقائد والمعلم النبيل،استشهد بين جنوده واقفا فى شجاعة الأبطال، يقدم المثل والنموذج لأبناء هذا الوطن،الذين لم يخذلوه،فبعد أربع سنوات قدم هؤلاء الأوفياء أبناء النيل..أبناء رياض.. أبناء مصر الخالدة،قدموا دماءهم وأرواحهم من أجل محو آثار الهزيمة،ورد الكرامة والأرض، وعودة الروح للجسد ثاروا لوطنهم وقائدهم ودماء رفقاء السلاح والخندق.. أبناء رياض أراحوه في نومه..خلدوا ذكراه العطرة..أما نحن فماذا قدمنا له ولهم؟
سيرة هؤلاء هي رحيق الشهداء وعطر الوطن..رددوها على مسامع أولادكم..علموهم قيمة ومعنى التضحية.. قدموا لهم النموذج والمثال النضالي والإنساني الحقيقي الذي أخلص في حب الوطن.. ضحى بحياته من أجل الأجيال القادمة..فهل تتذكره هذه الأجيال..؟