زيغموند في المقهى – للروسي فكتور بيليفين

زيغموند في المقهى – للروسي فكتور بيليفين

اللوحة: الفنان الهولندي فان خوخ

ترجمة صالح الرزوق

أحيانا وراء هذه الوجوه الحجرية الناعمة للآلهة تختبئ متاهة من الشقوق والفجوات، وتقطن فيها مختلف أنواع الطير. (جوزيف لافندير / جزيرة الفصح).

لا يتذكر شتاء باردا مر على فيينا حتى الآن مثل هذا الشتاء. كلما انفتح الباب ودخلت سحابة من الهواء القارس إلى المقهى، يرتعش قليلا. ولفترة طويلة لم يدخل أي زبون جديد، فسقط زيغموند في غفوة خفيفة يعرفها كبار السن، ولكن الباب خبط مجددا، فرفع بصره ونظر. دخل إلى المقهى شخصان آخران – سيد بلحية خفيفة مع سيدة ذات شعر مضموم ومرفوع. وكان بيدها مظلة طويلة وحادة. حمل السيد جزدانا صغيرا مزينا بفراء أسود لماع، مبتلا قليلا من ذوبان رقائق الثلج. توقفا عند رف القبعات وباشرا التخلي عن ثيابهما: تخلص الرجل من معطفه، وعلقه على خطاف، ثم حاول أن يعلق قبعته على نتوء خشبي طويل برز من الجدار فوق رف القبعات، لكنه أخطأه، وسقطت القبعة من يده ثم استقرت على الأرض. همهم الرجل شيئا. والتقط قبعته وعلقها أخيرا على النتوء. ثم أسرع ليساعدها بالتخلص من معطفها المصنوع من الفراء. تحررت السيدة من معطف الفراء، وابتسمت ابتسامة باهتة، واستعادت جزدانها منه، ولكنها فجأة كشرت بسخط: كان قفل الجزدان مفتوحا، وبعض الثلج سقط في داخله. علقت الجزدان على كتفها، ووضعت المظلة في الزاوية، وجعلت القبضة إلى الأسفل لسبب ما، ثم تناولت يد مرافقها، وسارت معه إلى الغرفة الرئيسية. 

قال زيغموند بنعومة: «آها». وهز رأسه. 

وكان بين الجدار وطاولة المبيعات، قرب الطاولة التي ذهب إليها السيد الملتحي وشريكته، مكان ضيق فارغ يلعب فيه ابنا الساقي: ولد بحوالي الثامنة ببلوزة فضفاضة ثقيلة بيضاء، يغطيها مضلعات سوداء، وبنت أصغر، بثوب داكن وبنطال مقلم من الصوف. وكانا يلعبان بمكعبات خشبية وكرة نصف مسطحة، رقدت بجانبهما على الأرض. كان الولدان بالعادة هادئين. الصبي ينشغل بكومة من مكعبات خشبية أطرافها مطلية وملونة. وكان يبني بها بيتا له شكل عجيب إلى حد ما، مع الاحتفاظ بفتحة في الجدار الأمامي. وكان البيت ينهار مرة بعد أخرى، لأن الفتحة واسعة جدا، وتسمح للمكعبات العلوية بالتساقط من الطرفين. وفي كل مرة تنتهي المكعبات للتناثر على الأرض، فيمسح الولد بحزن أنفه مستعملا أصبعه المتسخ، ثم يعاود البناء مجددا. جلست البنت أمام أخيها على الأرض، وراقبته دون اهتمام، وهي تلهو بقطع من النقود المعدنية – كانت تلقي النقود على الأرض، أو تكومها بأكوام صغيرة، ثم تدسها تحتها. وسرعان ما ضجرت من ذلك، فتخلت عن النقود، ومالت جانبا، وقبضت على أقرب كرسي من سيقانه، وجرته نحوها، وبدأت تدور به على الأرض وتدفع الكرة بسيقان الكرسي. وحالما دفعته دفعة قوية، تدحرجت الكرة نحو الصبي، وانهار البناء الضعيف في اللحظة التي هم بإضافة آخر قطعة في أعلاه، وكان الجانبان بشكل فروع شجرة برتقال وجهاز حريق. رفع الصبي رأسه وهز قبضته أمامها، ففتحت فمها ومدت لسانها – وتركته ممدودا لفترة طويلة بحيث يسهل رؤيته بكل تفاصيله. 

قال زيغموند: «آها». ونظر إلى السيدة والرجل الملتحي. كانا قد حصلا على المقبلات. وكان السيد يبتلع المحار، ويفتح أصدافه بدراية بواسطة سكين فضية، وهو يخبر شريكته بشيء ما، وكانت تبتسم، وتومئ وتأكل الفطر – كانت تحمله من الطبق بشوكة ذات سنين، قطعة قطعة، وتحدق به قبل أن تغمسه بمرق أصفر سميك. لمس الرجل بالزجاجة حافة كأسه، وسكب لنفسه بعض النبيذ، وشربه، وقرب منه طبق الحساء. 

أحضر النادل طبقا فيه سمكة طويلة مقلية. نظرت السيدة إلى السمكة، وفجأة لطمت جبينها، وبدأت تخبر السيد شيئا ما. نظر إليها وهو يستمع لبعض الوقت، ويقطب وجهه بتعبير ينم عن الشك، ثم شرب كأسا آخر من النبيذ، وبدأ يضع بحرص سيجارة في حامل سجائر مخروطي أحمر، قبض عليه بين البنصر والخنصر. 

قال زيغموند: «آها». ونظر إلى الزاوية البعيدة من الغرفة، حيث وقفت المضيفة، وهي زوجة ساقي البار، مع نادل ممتلئ. كان المكان مظلما، أو بالأحرى أكثر إعتاما من بقية الزوايا، بسبب احتراق مصباح السقف. وكانت المضيفة تنظر إلى الأعلى ويداها الممتلئتان على وركها. وكانت تشبه إناء زهور قديم بسبب وقفتها وبسبب مريولها الملون بخطوط منكسرة. أما النادل فقد حمل سلما مطويا طويلا، ووضعه قرب طاولة فارغة. تفحصت المضيفة السلم لتتأكد أنه قوي، وحكت رأسها تفكر، وقالت للنادل شيئا. فاستدار ودار حول طاولة البار، وانحنى وراءها وغاب لبعض الوقت عن النظر. بعد لحظة، ظهر من وراء الطاولة، وعرض على المضيفة شيئا براقا وطويلا. وافقت بحركة مفعمة بالنشاط، فعاد النادل إليها مع مصباح يدوي رفعه بيده. أشارت بأصبعها إلى الأرض حيث يوجد مزلاج مربع كبير قرب الطاولة الفارغة. وكان تقريبا غير منظور، لأن غطاءه مستور بنفس الخشب المضلع الذي يغطي بقية الغرفة. ولا يشعر المرء بوجوده إلا بعد ملاحظة خط مزدوج من نحاس رقيق والذي يتخلل تصميم الخشب الدقيق، وكذلك بملاحظة حلقة النحاس المضافة. جر النادل سرواله بهمة عالية حتى الركبتين، وجلس القرفصاء، قبض على الحلقة، وبقوة فتح الغطاء. قطبت المضيفة وجهها وتحركت. نظر إليها النادل متسائلا، ولكنها نفضت رأسها بتأكيد مجددا، فبدأ بالهبوط. من الواضح أنه يوجد تحت الأرض سلم، وسرعان ما اختفى في عتمة المربع بقفزات قصيرة، قفزة لكل درجة غير منظورة. أولا أمسك الغطاء بنفسه، وحالما هبط إلى أسفل، ساعدته المضيفة وانحنت إلى الأمام وقبضت على الغطاء بيديها، وحدقت بإمعان في الحفرة المعتمة التي غاب فيها النادل. بعد قليل ظهر معطف النادل الأبيض مجددا فوق الأرض، وقد أفسده الغبار وشبكة العنكبوت. صعد وأغلق الرتاج بقوة، وتحرك إلى السلم، فأوقفته المضيفة وطلبت منه أن يستدير. نظفت معطفه من الغبار بحرص، وتناولت من يده المصباح، ونفخت عليه، ومسحته عدة مرات براحة يدها. وذهبت إلى السلم، وضعت قدمها على أول درجة، وانتظرت النادل حتى أمسك السلم بحرص من أطرافه، وبدأت بالصعود. كان المصباح المحترق مثبتا داخل غطاء من زجاج ضيق، وكان معلقا بحبل طويل، ولذلك لم تصعد كثيرا. تسلقت خمس أو ست درجات، ومدت يدها داخل غطاء الزجاج، وحاولت أن تجر المصباح. ولكنه كان مثبتا بقوة، وبدأ الغطاء يدور معه. وأخيرا وضعت المضيفة المصباح الجديد في فمها. وأمسكت به بحذر بين شفتيها ورفعت يدها الأخرى وأمسكت الغطاء من حافته، فتحرك المصباح بسهولة شديدة. وحررت المصباح المحترق، وضعته في جيب مريولها، وبدأت بتثبيت المصباح الجديد. وتابع النادل باهتمام حركات يديها الممتلئتين، وهو يمسك السلم بيديه الصلبتين، ويرطب شفتيه بطرف لسانه. وفجأة انفجر الضوء من تحت الغطاء، فارتعش النادل، وطرف بعينيه، وخفف قبضته للحظة. تباعدت أطراف السلم المطوي، فلوحت المضيفة بيديها، وتقريبا سقطت على الأرض، ولكن النادل تدبر أمره وقبض على السلم في آخر دقيقة. وبسرعة عجيبة تمكنت المضيفة من هبوط ثلاث أو أربع درجات واستقرت على الأرض الخشبية وهي شاحبة من الخوف. ووقفت مرهقة ودون حراك بين ذراعي شريكها الهادئ. 

قال زيغموند بصوت مرتفع: «آها، آها». وحدق بالاثنين وهما قرب الطاولة. 

تناولت السيدة بشعرها المضموم الحلوى: وبيدها أمسكت أنبوبا مضلعا من القشدة، وكانت تقضم من طرفه العريض. نظر إليهازيغموند وكانت توشك على قضم لقمة كبيرة: ألقت الأنبوب في فمها وضغطته بأسنانها، ولكن القشدة السميكة سالت من أسفل العلبة الرقيقة المغلفة. انتفض السيد الملتحي فورا، وسقطت القشدة السائلة على يده عوضا عن أن تندلق على قماش الطاولة. ضحكت السيدة. حمل السيد كومة القشدة بيده إلى فمه وامتصها، مما جعل شريكته تضحك أكثر، وتخلت عن البسكويت المحلى وألقته في الطبق مع بقايا السمكة. بعد أن امتص السيد القشدة، أمسك يد السيدة وطبع عليها قبلة عميقة، فحملت كأس النبيذ الذهبي ورشفت منه عدة رشفات قليلة. ثم أشعل السيد سيجارة أخرى، وثبتها بحامل السجائر الأحمر المخروطي وامتص منها بسرعة عدة مرات، وبدأ ينفث الدخان بحلقات. كان ولا شك ماهرا في ذلك الفن المعقد. أولا نفخ حلقة دخان أزرق كبيرة ذات أطراف متموجة، ثم تبعها بأخرى، حلقة أصغر، فذابت في سابقتها، دون أن تلمسها. لوح بيده في الهواء، ومحا شكل الدخان، ثم نفخ حلقتين إضافيتين، بنفس الحجم، إحداهما فوق الأخرى، بشكل 8 نموذجي. نظرت إليه شريكته باهتمام، وبمهارة نقرت من رأس السمكة بعود خشبي رفيع. بعد أن ملأ السيد رئته من الدخان مجددا، نفخ دفقتين طويلتين رقيقتين، إحداهما مرت فوق الحلقة العلوية، والثانية نفذت من السفلية، وتلامستا ثم انفصلتا بشكل سحابة وحل مزرق. صفقت له السيدة. تنهد زيغموند وقال: «آها». واستدار السيد ونظر بفضول. نظر زيغموند إلى الولدين مجددا. على ما يبدو أن أحدهما وجد ألعابا جديدة. بجانب المكعبات الخشبية والكرة، توجد الآن حولهما دمى ممزقة وأجزاء معجون ملون. كان الولد لا يزال مشغولا بالمكعبات، ولكنه عوضا عن أن يشيد بيتا، بنى جدارا طويلا ومنخفضا، وفوقه وبمسافات منتظمة وضع جنودا لهم قبعات حمراء طويلة. بقيت عدة فتحات في الجدار. وكل منها يحرسها ثلاث جنود. واحد من الخارج واثنان من الداخل. كان شكل الجدار نصف دائري، وفي وسطه منصة منتظمة من أربع مكعبات لحمل الكرة – ولكنها استقرت على المكعبات فقط، ولم تلمس الأرض. وكانت البنت جالسة وظهرها لأخيها وبذهن شارد وتعض ذيل مجسم كناري. 

صاح زيغموند بحزن: «آها. آها. آها». 

لم ينظر السيد الملتحي له فقط (كان السيد والسيدة واقفين عند رف القبعات لارتداء ثيابهما)، ولكن شاركت بالنظر المضيفة، التي كانت تعدل غطاء النافذة بعصا طويلة. نظر زيغموند إلى المضيفة، ثم إلى الجدار، وشاهد عدة لوحات – مشهد بحري مضجر وقمر ومنارة، ولوحة ضخمة حديثة ليست بمكانها، وتصور من الأعلى جهازي بيانو كبيرين، وفيهما يستلقي الميت بونيل وسلفادور دالي، والاثنان بأذنين طويلتين على نحو شاذ. 

صاح زيغموند بأعلى صوته: «آها. آها. آها، آها». 

نظر كل الموجودين له من كل الأنحاء، ولم يكتفوا بالنظر: اقتربت منه المضيفة وفي يدها عصا طويلة، ومن الطرف الآخر – السيد الملتحي، وبيده قبعته. عبست المضيفة كالعادة، ولكن وجه السيد عبر عن اهتمام أصيل ومؤثر. كانت الوجوه تقترب حتى احتلت تقريبا كل نظره، وشعر زيغموند بالدوار بسهولة، وانكمش بشكل حزمة منفوشة. 

قال السيد الملتحي للمضيفة: تمتلكين هنا ببغاء جميلا. ماذا بمقدوره أن يقول أيضا؟

ردت المضيفة: أشياء كثيرة. هيا يا زيغموند. قل شيئا. 

ورفعت يدها ووضعت طرف الأصبع الثخينة بين القضبان.

قال زيغموند بتحبب: زيغموند ولد طيب. 

وتحرك على طول القضيب، نحو الزاوية البعيدة من القفص، تحسبا.

وأضاف: زيغموند ولد ذكي.

قالت المضيفة: هو ولد ذكي. ولكن القفص مليء بقذاراته. لم يترك بقعة واحدة نظيفة.

قال السيد الملتحي وهو يرتب شعره: لا تتشددي مع الطائر المسكين. فالقفص قفصه في النهاية. وعليه أن يعيش فيه أيضا.

بعد لحظة شعر بالاضطراب كما هو واضح بسبب مخاطبة زوجة ساقي البار غير النبيلة. وبوجه جامد ارتدى قبعته، واستدار واتجه إلى الباب.

ترجمها من الروسية إلى الإنكليزية سيرغي وينيتسكي Serge Winitzki – ١٩٦٦


فكتور بيليفين Victor pelevin (بالروسية Виктор Пелевин) روائي وقاص روسي. مواليد ١٩٦٢. يعتبر من رموز ما بعد الحداثة الجديدة. حصل على العديد من الجوائز الأدبية. يعيش في موسكو. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.