جسر على قناة السويس

جسر على قناة السويس

اللوحة: الفنان النمساوي ألبرت ريجر

د. حمدي سليمان

قليلون هم الذين يتسرب إليهم هذا الإحساس كلما قرأوا كتاب فتحي رزق (جسر على قناة السويس)، وربما يتعجب البعض من هذه العبارة وعلاقتها بالحرب، فالحرب شيء بشع، لا يمكن للمرء أن يتمنى عيشها أو تكرار حدوثها أو حتى تحمل تبعاتها، لكن ما قدمه فتحي رزق إلينا عبر يومياته الملتهبة لم تكن حربا تقليدية بين جيشين في ميدان معد سلفا للقتال، بل كانت سمفونية صمود وتصدى لمدن ومدنين عزل كتب عليهم مواجهة الحرب والمأساة عندما وجدوا أنفسهم فجأة أمام عدو غاشم على بعد أمتار من بيوتهم، عدو يصوب مدافعه نحو صدور أبنائهم، لا فرق عنده بين عسكري ومدنى، ومتى كان يحترم حتى العسكري، عدو يحاول طوال الوقت ضرب الروح المعنوية لدى المدنيين ليعزلهم عن ميدان المعركة ويفقدهم الثقة في جيشهم ويجبرهم على التهجير وتسليم المدينة

 لذا يشعر كل من له علاقة بهذه المنطقة وتاريخها الممزوج بالألم والنضال المشرف وهو يقرأ اليوميات إنه فقد الكثير بعدم وجوده ضمن أفراد تلك الملحمة البطولية الرائعة، وهو نفس الشعور الذى يتسلل إلى المبدعين الحقيقيين عندما يكتبون عن هذه التجارب التاريخية الصعبة، وعن حجم الدمار والماسي والتضحيات والبطولات الإنسانية،عن المقاومة العسكرية والشعبية،وعن تفاصيل الحياة اليومية تحت الخطر والدمار، وعلى أصوات انفجارات القنابل، عن لحظات الألم الرهيب والخوف والتشبث بالحياة، كيف يكتب المبدع عن كل تلك التفاصيل دون أن يكون جزءا من المشهد، لذا يقول رزق: هل يمكن للكاتب أو الفنان أو الشاعر أو القصاص أو الروائي أن يكتب عن الحرب دون أن يراها… وأن يعبر عن المقاومة الشعبية دون أن يشارك فيها بصورة أو بأخرى… هل يستطيع بالفعل أن يعبر عن نضال شعب في أقسى معاركه بالاكتفاء بما تقدمه له الصحف؟ 

ليس من الضروري أن يحمل الكاتب السلاح، لكنه من الضروري أن يعيش مناخ المعركة.. أن يشارك المقاتل أو رجل المقاومة الشعبية أياما أو أسابيع أو شهورا.. لابد أن يعيش مع الفلاحين في مزارع خط النار.. مع عمال مصانع الجبهة.. مع رجال المقاومة الشعبية في قواعدهم، مع المقاتلين في خنادق خط القتال الأمامي.. أو حتى الخط الخلفي.. أن يعيش مع الناس في الشوارع والخنادق والحوانيت أثناء المعارك وبعدها وقبلها…

كان يجب أن يأتي وفود من الأدباء والكتاب والفنانين للإقامة في الجبهة.. يوزعون أنفسهم على مدن السويس والإسماعيلية وفايد والقنطرة غرب وأبو صوير والقصاصين والتل الكبير والدفرسوار والكاب وغيرها… لكى يعيشوا تجربة المعركة مع المقاومة الشعبية، وبالقرب 

من خطوط القتال… مع الفلاحين وعمال المصانع… وداخل المستشفيات وكل مواقع الخدمات إن نبض المعركة لا يمكن نقله من خلال زيارات محدودة لعدة ساعات لمدن الجبهة… مثل زيارات السياح.. فالحرب هي ذروة الدراما الإنسانية… وهى لا تروى من المنابر..وإنما تشاهد أولا.. فإذا لم يستطع الكاتب أو الفنان أن يشارك فيها… فعليه أن يشاهدها… أما الاكتفاء بالحديث عن المعركة من خلال الإقامة في العاصمة التي لا تعيش مناخ المعركة الحقيقة، فإن ذلك معناه ضياع الكثير من الصور والأقاصيص والروايات الصادقة من منابعها عن نضال شعبها الذى يعيش أروع أيام كفاحه فى أشرس معاركه.

ما أتعس وأغرب هؤلاء الذين يكتبون عن المعركة من صالونات القاهرة !…دون حتى أن يزوروا – مجرد زيارة – جبهة القتال، ويعيشوا مع المعركة يوما واحدا…. ثم يقدمون بعد ذلك صورا أكاديمية عن النضال… ورؤية مكتبية عن ضراوة القتال.. مقالات.. شعر.. أزجال.. لا تعرف عن المعركة سوى الشعارات. 

مبدع بدرجة مقتال

تعددت مواهب وإسهامات فتحي رزق في الحياة الثقافية والإعلامية، فهو روائي وقاص ومفكر ومؤرخ وصحفي ومواطن بدرجة مقاتل، لذا جاءت يومياته عن الحرب مفعمة بالكثير من المواقف الإنسانية، التى رصدها بلغة شعرية راقية، فهو منذ اللحظة الأولى يقدم لنا سردية إبداعية تمتزج فيها كل الكائنات مع المكان والزمان فى جدلية رائعة، عناصر سرديته هي كل مفردات الحياة من بشر وحيوانات وطيور وبيوت وشوارع..الخ 

لم تغب عينه عن أدق التفاصيل وأبسطها.. ففي رصده للساعات والأيام الأولى للهزيمة والانسحاب الاضطراري العشوائي المربك، يتوقف كثيرا أمام مشهدا إنسانيا مميزا من أبناء الإسماعيلية تجاه الجنود العائدة من الضفة الشرقية وهم في حالة محزنة.

فقد قام المئات من أبناء المدينة بمشاركة الجنود في إصلاح السيارات والعربات والدبابات التي تعطلت، وخرج الناس من بيوتهم منذ الصباح الباكر يحملون الأغذية وأكواب الشاي والقهوة والسجائر وأيضا الملابس والأغطية يقدمونها بروح معنوية عالية، وبروح الانتماء المصري الوطني العريق التي تظهر جلية واضحة في أيام الشدة والكرب العظيم.

رأيت هذا المشهد في كل شارع وكل حارة وكل حي.. وكان سكان المدينة قد اتفقوا جمعيا على القيام بهذا الدور..وفى عدة مواقف متكررة رأيت الدموع تتساقط من عيون الجنود والضباط فى مواجهة الموقف الوطنى المذهل لأبناء الإسماعيلية..وسمعت مواطنا من أبناء المدينة يقول لأحد الضباط سنقاومهم سنقاتل جمعيا إلى جانبكم..ولن يستطيعوا هزيمتنا بعد اليوم..وعندما سمعت ذلك البيان العسكرى الذى يضع النهاية لكل شىء..كانت الساعة تقترب من الثالثة..فأخذت طريقى إلى القطاع الشرقي من المدينة لكى أرى ما حدث لمعسكر الشباب الذى أغارت عليه طائرات إسرائيل في الصباح..وفى الطريق..رأيت (عربة كارو) يجرها حصان يقودها شخص خيل إلى من بعيد أننى أعرفه..وتوقفت العربة ونزل قائدها وهو يحمل فى يده أشياء لم أتبينها في البداية..فأسرعت لكى أرى ما يحدث..وهناك وجدت أحد أبناء المدينة كان يقود العربة الكارو ويحمل فوقها كميات كبيرة من صفائح الجبن وعلب الحلوى والخبز والبسكويت والسجائر..وأنه يقوم بتوزيع الأغذية والسجائر على جنودنا العائدين من الشرق، واختار القطاع الشرقي من المدينة لأنه الأقرب إلى قناة السويس حيث يحتمى الجنود بالأشجار الكثيفة فى الشوارع والطرق وفى جزيرة الفرسان المحاذية لبحيرة 

التمساح، وسألت عن مصدر هذه الأغذية..وكنت أعرف أنه يعيش فى أزمة مالية.. ورد بسرعة إن مصدرها الأسرة..فنظرت إليه طويلا..وفهم ما أقصده..فقال.. لقد نزعت الذهب من رقبة زوجتى العظيمة ويديها..فأنا صاحبه.. وعندما لم أجد ما أقدمه مساهمة فى هذه الحرب اللعينة قررت أن أشارك فى تقديم أى معاونة ممكنة لرجالنا فى القوات المسلحة..ولم يكن أمامى سوى هذا الذهب..فأخذته وذهبت إلى أحد تجار الذهب ولم أخرج إلا.. ومعى مبلغ كبير حقق لى أمنيتى فى مساعدة جنودنا، ووفر لى قدرا من المال لمواجهة ظروفى السيئة فما فائدة هذا الذهب إذا لم يشارك فى المعركة، وماذا نفعل به لو دخل أبناء صهيون مدينتنا؟  

فتحي رزق الأديب والصحفي والمقاتل النبيل

عاش رزق رحلة حياة قصيرة مشحونة بالمخاطر، رحلة صاخبة مليئة بالأحداث المثيرة والذكريات الأليمة، ومع ذلك قدم لنا ملحمة إنسانية وصحفية ونضالية عظيمة. فهو الكاتب والأديب والمفكر، الذي ترك لنا العديد من المؤلفات القيمة، ومنها: قناة السويس الموقع والتاريخ – رباعيات سيناء – أدباء لا تغرب عنهم الشمس – وجداريته الرائعة، جسر على قناة السويس. ولد ونشأ في مركز أبو صوير التابع لمدينة الإسماعيلية في 1937. ورحل عن عالمنا في 4 فبراير 1987، عن عمر يناهز الخمسين عام، إثر أزمة قلبية مفاجئة، أزمة طالت القلب الذي عانا الكثير أخر أيامه من مواجهة جماعات الفساد المنظم، وتعنت الإدارة المحلية، وأصرارها على تشويه كل قيمة، ومحاولاتها المستميتة لمسخ المدينة، وتاريخها النضالي، لتمرير السياسات الجديدة، التي كانت منهج المرحلة في ذلك الوقت، فقرر ذلك القلب الجريح أن يستريح، حيث كان الراحل عائدا من القاهرة للإسماعيلية بسيارته عندما فاجأته أزمة قلبية فعاد به ابنه ياسر رزق الذي كان يرافقه للقاهرة، حيث نقله على الفور إلى مستشفى كليوباترا بمصر الجديدة، فأدخل الى غرفة الانعاش إلا أن روحه فاضت إلى بارئها، وقد خرجت الإسماعيليه بمواطنيها وقيادتها تحمل نعش الفقيد الغالي و تشيعه الى مثواه الأخير حيث دفن بمقابر أسرته بقرية أبو صوير. هكذا رحل المبدع المقاتل فتحي رزق، الذي بدأ حياته الصحفية مراسلا لجريدة المساء و جريدة الجمهورية ثم مراسلا لجريدة الأخبار حتى أصبح مدير لمكتبها بالإسماعيلية. وساهم في تأسيس جريدة القناة سنة 1961، وبدأ عمله بها محررا وسكرتيرا للتحرير، ثم مديرا للتحرير ثم رئيسا للتحرير سنه 1974. وكان له جهد فائق فى أن تواصل جريدة القناة مسيرتها و خاصةً في سنوات المحنة ما بين 1967 و 1973 ونجح فى أن تصل ما بين المهجرين من أبناء الإسماعيلية فى كل محافظات مصر وبين أجهزة المحافظة بالإسماعيلية. وقد ساهم بجهد أساسي في إنشاء نادي أدباء الإسماعيلية سنة 1966. و كان أول رئيس لمجلس إدارته، وشٌهد له أنه كان أنشط وأبرز المراسلين الصحفيين في تغطية أحداث المنطقة خلال سنوات الحرب، وخاصه حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر. شارك فى العمل الشعبي والسياسي في السبعينات وانتخب رئيسا للمجلس الشعبى المحلى بمركز الإسماعيلية لمدة 4 دورات متتالية. 

كانت تلك مسيرة الراحل فتحي رزق الذي قضى معظم حياته في ميادين الحرب والقتال والصحافة، وكانت له بصمات نبيلة من أجل الأرتقاء بالحركة الصحافة والثقافة والأدبية في مدينته الحبيبة الإسماعيلية، تلك المدينة التي سجل تاريخها الحديث بكل ما فيه من أنتصارات وانكسارات وأفراح وأحزان، وكتب عن بطولات أبنائها الأوفياء. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.