حول الابداع

حول الابداع

اللوحة: الفنان الياباني أكيرا كوساكا

فواز خيّو

مثلما ينفجر الزلزال أو البركان نتيجة اختلال وصراع بين طبقات الأرض، ينفجر الإبداع عند الإنسان بسبب الاختلال بين طبقات النفس وصراعها مع بعضها، وبين طبقات النفس والمجتمع بموروثه وعاداته وأمراضه. 

الإنسان المسالم المتسالم مع المجتمع والمندمج فيه، لا يمكن أن يبدع، لأنه لا يجد ما يثيره أو يحرّضه. 

الشاعر مشعوذ جميل، مُحضّر أرواح، يكتب ليستحضر الحبيبة الغائبة في قصيدة، ليستحضر الوطن الغائب المشتهى في قصيدة، يستحضر الأحلام. 

في الدول التي حققت الأوطان والأحلام ومستوى عاليا من الرفاه، كاليابان والسويد وغيرها، لن تجد شاعرا عظيما. قد تجد ناقدا عظيما أو روائيا أو رساما عظيما، لكن لن تجد شاعرا عظيما. الشاعر هو ابن الألم و القهر والأحلام الغائية المفقودة، وسيبقى ذلك المشعوذ اليائس الحزين.

الإبداع هو حصيلة تجربة ذاتية فردية، وبقدر ما تكون هذه الذات منسجمة مع أحلام الناس وقيمها تكون انسانية وشعبية ونتاجه يهمها، وحين تكون ذاته ضيقة منزوية يكون انتاجه له حصرا ولن يعني الآخرين. 

الكاتب الذي يكتب للناس ويضع الناس أو الجمهور أمامه وهو يكتب سيسقط، لأنه مثل برنامج (ما يطلبه الجمهور).

الكاتب الذي يستيقظ في الصباح ويسأل نفسه: ماذا سأكتب اليوم؟ لن يكتب أي شيء مهم، وهو ليس بكاتب إنما موظف. 

الإبداع هو ذلك الهاجس الحار بتحطيم القوالب المجتمعية الجامدة لخلق عالم جميل،

هو ذلك الجمر المتقّد في الأعماق، والمخاض هو إفراغه لترتاح روحك وتبرد. 

الإبداع الحقيقي هو ابن العقل الباطن، فالقلق يبرمج العقل الباطن فيؤجج الخيال الذي يتعلق بالفكرة، ويلاحقها ليصطاد ويجمع كل العناصر المتعلقة بها، تماما مثل محرك غوغل حين تسأله عن فكرة وتضغط البحث وتمضي، وبعد لحظة يناولك إياها، والدليل أن مجرد فكرة تخطر في بالك وتهتم بها تجدها تتوالد وتستطرد وتختمر دون أن تنتبه، فتأتيك جاهزة. 

الابداع هو مخاض وومولود العقل الباطن، ومن ثم يأتي العقل العادي لينظّف ويغسل ويشذب. 

العقل العادي شغاّلة عند العقل الباطن. 

العقل الباطن طاقته أضعاف العقل العادي، وإلا كيف تقف مندهشا أمام فكرة أو صورة أنت أبدعتها وتتساءل: هل يعقل أني أنا الذي كتبتها؟ 

الدهشة منطقية لأن عقلك العادي أضعف من أن يبتكرها. 

كتبتُ مرة إلى مجد صاحبة (كم أنت أنت) بجزأيه وهي فنانة تشكيلية: كل المبدعين في شتى المجالات أبدعوا بقدر استفادتهم من العقل الباطن. 

كم يغفل الناس عن سرّ وأسطورة العقل الباطن، هو متصل مع العقل الكلي، وتستطيع التركز وإرسال رسائل الى الكون ليأتيك ما تريد. تفاءلوا بالخير تجدوه، هذه المقولة ليست عبثا يقولها النبي الكريم.

فوق ذلك هو كتيبة أطباء داخل الجسم، يكفي أن تبرمجه وتقنع نفسك أن بصحة جيدة، وسيتلقى الأمر ويرمم ما فيك من عضو مريض.

كم يقولون عن شخص لقد شفته إرادته من السرطان مثلا، ولا يعرفون كيف تم ذلك. هو أقنع نفسه أنه أقوى من المرض وسيتعافى ويعيش بصحة جيدة. طبعا العمر مقدّر ولكن باستطاعتك أن تشفى من مرض ريثما تأتي ساعتك. 

كم من المرضى يزورون المزارات ويشفون، مع أن تلك المزارات تكون خاوية أحيانا ومصطنعة للاسترزاق، لكن إيمانهم بهذا المزار برمج العقل الباطن وشغّله للشفاء. 

كان السيد المسيح حين يشفي رجلا يقول له: لقد شفاك إيمانك. أي لولا اعتقاده بالمسيح لما شفي.

وقيل قديما: اعتقد بالحجر يشفيك.

الاعتقاد أساس كل شيء، فلو زرت أمهر الأطباء ولديك شك فيه فلن تشفى. 

المرض كالكلب، فإذا خفت منه وركضت أمامه سيلحقك وينهشك، لكن إذا وقفت أمامه وهويت لالتقاط حجر سيخاف، وسيطأطئ رأسه ويمضي. 

لقد أوجد الله بك أسرار الكون والقوة.. كن أهلا لها.

الشاعر الحق لا يكتب قصيدة، إنما القصيدة هي التي تكتبه، تلاحقه وتقضّ مضجعه وتتوسّله أن يكتبها. 

المبدع الذي لا يسكنه الهاجس والقلق لن يبدع. كانت أم كلثوم تمنع بليغ حمدي من حضور البروفات النهائية لقصيدتها، لأنه مسكون ومطارد بالقلق، وكل لحظة تخطر في باله فكرة يعتقدها هي الأدق والأجمل فيعدّل، وتكون أم كلثوم قد تعبت من قلقه وتعديلاته وأعجبها اللحن واطمأنت إليه بأنه جميل.. هذا هو المبدع الحق. 

الشاعر الذي يجلس أمام حبيبته ليكتب لها قصيدة ليس شاعرا بل بغل حقيقي.

 حين تكون القصيدة الأصلية حاضرة ؛ عليك أن تعيشها وأن لا تهدر حتى الثواني من حضورها.

 وعندما تنسحب وتغيب ؛ يأتي دور القصيدة لتؤرّخ حضورها وتستحضرها من جديد. 

كم أزدري وأمقت بعض المدّعين حين يقول أحدهم لامرأة معجب بها: سأكتب فيك قصيدة، كأنه نجّار يريد صناعة أو تفصيل طاولة أو كنبة. هؤلاء هم عالة على الوسط الابداعي وأكبر مُشوّهيه، هؤلاء أسميهم موظفين، يفتعلون أي شيء ويجاهدون ويجهدون ليسجلوا حضورهم وليقولوا إنهم موجودون في الساحة، وأحيانا أسميهم زعران الثقافة. 

مرة اتهمني بعضهم بأني متعجرف ولا أرى أحدا أمامي، قلت لهم: لو كنتُ متعجرفا لما كنت كتبت وأكتب عن كل الأصوات الجميلة، فأنا نظري جيد ولا ألبس نظارة، وأرى كل شيء حتى الحشرات الصغيرة، فإذا أردتم أن أراكم اكبروا. 

كتبتُ مرة: أحببتُ أربع نساء وأصدرت أربعة دواوين لهن، ولم أكتب قصيدة في امرأة منهن، هن اللواتي كتبن القصائد، وأنا مجرّد عبد مأمور أدون حضورهن وغيابهن، وقلت لإحداهن: لا تتباهي وتقولي إن أجمل الشعراء كتب فيك أجمل القصائد، هذه قصائدك يا غبية، أنت التي كتبتها، أنت التي أضرمتها بي وأنا مُجرّد مدوّن أكتب محضر اللقاء.

قالت لي صديقة مرة: أكتب بي قصيدة. قلت لها: إذا استطعتِ أن تشعلي بي قصيدة. أنا لست نجّارا. دعينا نلتقي فقد تولد قصيدة. 

كل القصائد التي يكتبها الشاعر هي محاولات لكتابة القصيدة الحلم، لاصطياد السمكة الذهبية من أعماق الأعماق، وعندها يضع سنارته جانبا ويستريح. 

ما أصعب ألا تستطيع استجلاء كل أعماقك لتسكبها على الورق.

كلما ينتهي من كتابة قصيدة تظل في أعماقه بقايا لم يقلها ولم يستطع قولها، وتكون بذرة لقصيدة أخرى.. وهكذا الرسام أيضا. 

وكما يقولون: لا أدب عظيما دون قارئ عظيم، فالإبداع له طرفان يكتمل بهما، المبدع والمتلقي. 

تُرى لو بقيتْ الجوكندا في الدرج ما هي قيمتها؟ المتلقي هو من منحها هذه المكانة. 

أنت كمتلقي وخاصة إذا كنت ممن يمتلكون الذائقة الجميلية، فلست أقل أهمية من المبدع، لماذا تصرّ على أن تكون أنت المبدع وليس لديك المقوّمات من موهبة وخيال وغيرها؟ 

كن قارئا جميلا ومثقفا جميلا، خير من كاتب أو شاعر رديء.

كنت محبوبا جدا في جرمانا، وفي إحدى الأمسيات اكتظّت قاعة المركز الثقافي وكان الوقوف أكثر من الجالسين، وذات مرة كنت أسير في أحد الشوارع في جرمانا، وكان ثمة صبيّتان تشربان المتة على الشرفة، وحين صرت جانبهما قالت إحداهما: يسلملي الحلو. وقفتُ وقلت لهما: (ما عندكن أخوة تخافوا عليهن)؟ فانفجرتا بالضحك. 


بين المثقف والمتثاقف

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.