انتحار

انتحار

اللوحة: الفنانة الأميركية كاليدا راولز

البحر أسود خامل، يرسل أمواجه متثاقلة إلى شاطئ غير مكترث، تراخى الليل بليدا، سماؤه مرصعة بنجوم باهتة، شبح نحيل بكتفين عريضتين يتمايل من بعيد، يجر ساقيه المرتخيتين على الرمال بملل شديد. أحس الهواء يضغط على صدره، مد يده لجبهته يمسح عنها عرقها المتصبب، تلفت حوله:

  • الله يلعن هذه الحياة ومن فيها، ليس البشر سوى حمير يجب حرقهم!

وضع مسجلته الحمراء على الرمال، أدار موسيقاه، خلع قميصه الباهت بملل، استدار يستكشف محيطه، لا أحد، الوحدة نعمة، نزع سرواله، لامس الماء بقدميه:

  • أوه.. كم هي باردة، يجب أن أنتحر بهدوء، تلك الحياة غير جديرة بالحياة طالما يعيشها من هم مثل وجدي، بغل في هيئة آدمية، تيس لديه شهادات جامعية لا أدري من أين تحصل عليها؟ آه.. الموسيقا حقيقة الوجود الوحيدة.. هههه، من يقدّر ذلك؟

تقدم ببطء داخل الماء، تلسعه برودتها كإبر مسممة، استدار نحو الشاطئ البعيد، ما تزال قدماه تلامس القاع، قفز لأعلى ضاربا بكلتا يديه سطح الماء الذي بالكاد لامس صدره، أغمض عينيه بينما تتطاير المياه متقافزة على جانبيه، صاح بأعلى صوته:

  • يجب أن يعيش الإنسان حرا، وإلا فما معنى الحياة؟

تلفت حوله، لا أحد، صرخ صرخة مكتومة، تبعتها صيحات، أراد أن يوقف حنجرته عن الصراخ، لكنها لم تستجب.

  • آه.. الماء بارد.. لكن يجب أن أنتحر، سيعرفون قيمتي آنذاك، سيدركون من أنا! هكذا العظماء لا يُعرفون إلا بعد موتهم! آهٍ لو أستطيع أن أطل من التابوت لأرى حسرتهم ودموعهم المنهمرة على جسدي الممدد دون حراك؟ سأقول لأبي المتعجرف: هأنذا ميت.. هل أرحتك مني؟ سأنادي على إخوتي: الآن يمكنكم أخذ حصتي في الميراث، فلم يكن يهمني ذات يوم، لكنه كان همكم الأكبر، سأضحك بسخرية من كل الرفاق الذين توددوا لي لمصلحة تخصهم، لذا لم يحضروا جنازتي، لكنني سأنادي عليهم بأسمائهم وأنا أمر بنعشي في شوارعٍ جمعتنا سويا، سأواسي أمي الحنون، وأترك لها حلما تراني فيه منعما بجنة الخلد؛ حتى يستريح قلبها. 

قطب حاجبيه، وزم فمه، ثم خبط الماء بكلتا قبضتيه: سأجعلهم يندمون على إهمالي.

فتح عينيه مشدوها كمن تذكر أمرا مفزعا: لكني.. لم أخبر أحدا أني هنا، قد لا يجدونني أبدا! هز رأسه وحك ذقنه بيده: لكنهم يعرفون أنني أذهب عادة وحيدا إلى البحر، ولكن ربما…

مدّ رقبته، حملق بعيدا، ثمة أشباح تتحرك على الشاطئ، صاح: من هناك؟ 

لم يجبه أحد، حاول الركض خارجا، مقاومة الماء تزداد كلما حاول الإسراع: سيسرقون المسجلة.. الملاعين! توقف لاهثا، أرخى ذراعيه وفك قبضتيه: لقد غادروا.. هذا هو الشيء الوحيد الذي يتقنونه، إزعاج البشر، أف.. يجب أن أنتحر الآن!

رفع كفيه يتأملهما: هه.. بالفعل.. كفان كبيرتان تليقان بمثلي، هكذا حال الفلاحين في قريتي، يبدو أنه التطور الزراعي ما أورثني إياهما.. اللعنة على هذا التطور، كفان كزعنفتين مفلطحتين، هه.. لن يمنعاني من الانتحار، هيا قبل أن يأتي أحد ويحاول بشهامة مفتعلة منعي.. قطب حاجبيه، أخذ نفسا عميقا، ضغط أنفه بالسبابة والإبهام، و… هُبْ…!

لم يبق سوى ردائه الداخلي الأبيض يطفو فوق الماء، فكر.. يجب أن أصمد.. قليلا وأموت.. إن ممارسي اليوجا يبقون بالساعات تحت الماء، يجب أن أصمد، قد يأتي أحد وينقذني! لكني بالتأكيد سأمانع، سأرفض بشدة قائلا: اتركني.. لقد اخترت قدري.. س.. سأحاول.. سأ.. سأختنق.. يا الله! اختنقت! أخرج رأسه بسرعة، نفضه بقوة، تطاير الماء حوله، أخذ نفسا متتابعا قويا: واااه.. كدت أموت.. يا الله!

مسح وجهه بكلتا يديه، عب الهواء بعمق.. فتح بخوف عينيه، نظر حوله.. لا أحد.. لا أحد يسبح في تلك الساعة، نظر محملقا نحو الشاطئ، انتفض جسده، واستعدت عضلاته للمقاومة، اندفع يغالب إعاقة الماء: لقد عادوا.. عاد الملاعين.. المسجلة… أيها الملاعين، إني أراكم!

خرج من الماء لاهثا، اقترب من المسجلة الصادحة، كانت الأشباح الثلاثة تفر مغادرة الشاطئ، جلس القرفصاء مستندا برأسه على كفيه، تمتم: هذه الحياة قذرة، صحيح يا رامبو، الحياة هي المهزلة الكبرى التي لا يجب أن يعيشها أحد.

رأي واحد على “انتحار

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.