الصرخة الأخيرة

الصرخة الأخيرة

نبيلة يحياوي

اللوحة: الفنان الهولندي فنسنت فان خوخ

إنها القرية التي حجب عنها ضوء الحياة؛ الفقر باد على تلك الأزقة الضيقة، والهدوء فيها أشبه بالقبور لا تكاد تسمع شيئا إلا صوت البؤساء ينزوون في أركان بعيدة عن الابتسامة..

 كانت الخيوط الأخيرة من ضوء الّنهار، الفصل شتاء رهيب يغزل نسيجه بكتل من الثلوج الرابضة خلف التلال. وصوت الطبيعة تحت رداء الأرض، الضباب كثيف غطى ما تبقى من آثار لبيوت؛ كأنها أطلال على جدار الزمن. لا تسمع إلا اِصْطِفاقُ الأسنان في بيت هَرم من جلبة المخاض

فاطمة الزوجة الحبلى تقاوم الوجع كما تقاوم قر الشتاء؛ دخل زوجها يدفع الباب بكل قوة مغتاظا هذه المرأة اللعينة ألأ تلد إلا الإناث..! كانت قطرات الماء تخترق الجدار الطيني العتيق، وسقف يعزف بأوتار الّرياح ويحدث ضجّة قويّة نوتات الحزن؛ وشلة من البنات الخمس يلتففن حول المدفأة ونظرات الحزن تشيح عن وجه والدهن كأنهن غارقات في زحمة الأسى.. والجدة العجوز تزمجر كلّ مرة عليهن.. ويغزل الالم طريقه إلى المنتهى …

 ألم أخبرك أن تنتهي منها طلقها يا محمد..  قالت العجوز: ما الجدوى منها!! ثارت في وجهها ثم التفت إلى حفيدتها ذات العشر سنوات جهزي الماء الساخن أيتها اللعينة وناوليني الصوف.. لا أدري ما ذنب ابني حتى تأتيه هذه اللعنة!؛ نظرت والدته إليه وكأنه متيقن أن المولود انثى من فرط قلقه وهمّه هل هو ذكر؛ ردي أجيبي!

ليس بعد لا تفقد أعصابك..

عليك الانتظار خارجا.. هذا أفضل لك.

أشارت العجوز بأصبعها تحملق في وجه البنات، سيكون مصيركن كاختكن نصيبكن الزواج لأول رجل يتقدم لخطبتكن.

كان الزوج منتظرا خارج المنزل ممسكا سيجارته اللعينة معتقدا أنها تمتص غضبه؛ في تلك الأثناء شعر برجل يتقدم نحوه منصتا إلى صوت الأقدام وهي تحدث صخبا تحت الثلوج سرعان ما تعرف عليه إنه نسيبه أحمد لا يبعد كثيرا عن القرية.. اقترب بخطواته إليه وألقى التحية، فرد محمد هل اصطحبت صفية؟.. نعم نعم إنها ورائي. آه المعذرة يا أبي الثلوج تعيق حركة السير كيف حالك؟ سلمت على والدها وقبلت رأسه.. كيف حال والدتي.. أدخلي البيت رد الوالد.. دفعت صفية الباب الخشبي بقوة ودخلت؛ كان الجو في الداخل شبيها بلوحة صماء.. الأخوات الأربع متكآت على الجدار الهش الطيني، ودخان المدفأة قد بلغ عنان السقف.. استدارت الى مكان النسيج حيث تمضي معظم وقتها فيه، ثم إلى ركن آخر من زاوية المنزل وإذا بوالدتها ممتدة تسبح في آلام عسر المخاض تسألها بصوت منخفض لم أتيت صفية؟ هل هو الجو الملائم! كفاك يا أمي أين جدتي أشارت الأم الى الفوق وكانت تقصد العلية.. نادت جدتها

وهي تخاطبها بألم مابك جدتي ألن تتغيري.

أغربي عني، ألم تسمعي حديث أهل القرية.

بلى سمعت.. بسببهم أنا هنا.

لو كنتِ ولدا لكان لأبيك كل الشأن، أخجل أن أخرج من هذه البقعة كيف أقابل هؤلاء.. وهل ستكف ألسنتهم !

أنت أيضا لا تختلفين عن والدتك إنجاب الإناث أو عدم القدرة على ذلك ههه الأمر سيّان

 اللعنة عليك، وعلى أمك ماذا لو طلقك زوجك أحمد…! هل المنزل أصبح ملجأ العقيمات …..

كان محمد ونسيبه أحمد يتجاذبان أطراف الحديث، ألن تكتمل فرحتك بإنجاب أولاد يتسامرون معك. قهقه احمد:

هل هو حديث أهل القرية أيضا عمي محمد…؟ ألا يكفون …!!

الزمن يتغير ونحن أيضا…. يقاطعه محمد قائلا متلفعا برنوسه الأبيض بنظرات ثاقبة ونفاث دخان السيجارة. أمثالهم يتشبثون بعادات قديمة عقيمة.. لا يتغيرون حديث العام يسلب منهم الإرادة والعقل؛ لم يفكر لحظة أن ابنته لا يمكنها الإنجاب ماذا لو طلقها زوجها وعادت إليه من يقبل بإمراه عاقر طالق !

لم تستطع فاطمة مقاومة الألم؛ صراخها غصاتها… وبناتها كن يطلن من العلية، أما ابنتها البكر كانت تعلم علم اليقين أن هذه الآلام أكبر من أن تتحملها امرأة هرمت بسبب أفكار مجتمع ذكوريّ لا يفقه في الحب معنى.. صرخت صفية في وجه جدتها أليس الأفضل نقلها للطبيب حالتها تزداد سوءا أليس عارا أن يبقى الكل متفرجا!

العار أن يكون المولود أنثى.. هيا انصرفي

أبي.. أبي نادت صفية والدها

لن تتحمل يا أبي

أتمنى أن يحالفها الحظ المرة، وإلا نصيبها الطلاق..

صرخت فاطمة؛ جسد يتلوى من فيض الألم

وقف الجميع في ذهول ….

وااااع …يا ألهي توأم توأم ذكر  ….

محمد محمد… أدخل هنيئا يا ولدي لقد رزقت بتوأم يا لرحمة الله

دفع الباب بقوة، وكانت المرة الأولى التي يخترق فيها النور دياجير المنزل. فُتح على مصراعيه وكان نورا خافتا يخترق عتمة المنزل، آخر خصلة نور قبل أن يسدل النهار ستاره

وقف الجميع في ذهول …. توووووأم  ، يا الله…. ذكر

أغمي على فاطمة قالت كنتها …إنها لا تتحرك ما بها

أدركت صفية أخيرا أن حتمية الموت لا مفر منها، ما الجدوى في البقاء حين يصطدم الصمت بالألم

حين يطفو الحزن أحداق البؤساء، فيصير دمعا رقراقا..

سقطت صفية على حجرها بعد يقينها أن جسد أمها صار باردا طوقتها بذراعيها، لم يكتمل النور

ولم يصل إلى المدى لينير الوجوه البائسة؛ لقد اكتفى أن يمسح على جبين فاطمة وعلى جسدها الممدد

ليرحلا معا

حاولت رفعها، فأحست كأنما تحمل كيسا من العظام …

أمي لم تمت من عسر المخاض، ماتت قبلا من متاعب الحياة ما المخاض إلا قانون الله المحتم أما فجيعةٍ الموت هذه فمجرد صمتٍ يذبح لحظاتها شيئا فشيئا في روحها المعذّبة….

تنطفئ فاطمة.. وإيقاع الصمت يدندن إيماءات الحزن؛  

الزوج ولفيفة السيجارة متلعثما.. تنطفئ بين أصابعه يتمتم بكل أسف.

ما قيمة التوأم بدون أم!!

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.