اللوحة: الفنان الإنجليزي نيفيل كوبر
فواز خيّو

الكثيرون يتساءلون منطقيا عن سر الحزن عندي، رغم أني قطعت صحراء طويلة وحيدا، وحققت الكثير من النجاح الذي يتمناه الكثيرون، في الشعر والكتابة الساخرة والصحافة وكتبت في كل المجالات، وأنشأت أسرة ناجحة متحابة، والأهم من كل هذا هو الحب الذي أحمله للناس والذي يبادلني الناس به.
الآن أجيب على بعض من التساؤل المر..
حتى لا يعتبر البعض اني أعشق الحزن. لست مازوخيا، بل عشقني الحزن ورفض التخلي عني.
يوم جمعة هادئ حتى الأن.. لا شيء مرعبا ومدمرا قدر ليلة ويوم الجمعة.
كنت أحيانا لا أجرؤ على النوم ليلة الجمعة، أحضّر الدخان والقهوة وأسهر حتى الصباح، لأنجو من رعبه.
كوابيس مرعبة، أخطبوط معدني يطبق علي فأفيق مرعوبا، أو وحش يهاجمني ويحاصرني في الزاوية ولا أستطيع الصراخ، أو ملكة تلبس تاجا وتغتصبني فأفيق منهكا لا أستطيع الحراك، وأحيانا زنجية طويلة.
تأتيك الفرص مجتمعة والكل متحمس ليعمل معك، وبعد اسبوع يتبخر كل شيء، لم تضع شروطا مزعجة ولم يصدر منك ما ينفر الآخر.
كله يركض ليشتغل معك من دريد لحام، لهشام شربتجي، لياسر العظمة، لبقعة ضوء وغيرها، وبعد أيام لا تعرف ماذا يحصل.
لا يأتيك مبلغ إلا بعد اختناق ويذهب مثل دهن الشياطين ولا تستفيد منه بشيء.
سفرتي الى البحرين عام 2004 كانت رائعة وراتب كبير وشقة وسيارة، وكنت اشتغل نصف شغل المجلة وأحبوني بشكل كبير، وحصلت مشاكل لم تخطر في بال وجئت. فقط من هذه السفرة خسارتي 300 مليون، لو ظللت للآن.. وعشرات الفرص غيرها تبخرت.
حتى علاقاتي مع أصدقاء كثيرين تنقطع وتنتهي دون سبب واضح، مع أننا حملنا لبعضنا الود والاحترام.
كانت أخطر المراحل مطلع التسعينات، حيث فقدت ذاكرتي مدة، وكنت أبدّل مقعدي في الباص عدة مرات من جرمانا للشام، توتر هائل وصداع لا يفيد معه كل انواع البنادول.
في تلك الأثناء كنت أكتب الزاوية التي تضحك الآلاف المؤلفة، والتي يتابعها الماغوط ويقصها دريد لحام ليحتفظ بها ويتابعها أعلى المسؤولين في الدولة.
كل اللواتي أحببت، كانت تمر الشهور والسنين بشكل عادي وجميل، لكن حين نصل حافة الارتباط يحدث الزلزال ونفترق، كان ممنوعا أن أرتبط وأعيش مع من أحب.
كل مشاكلي يوم جمعة. أقرر أن لا أخرج من البيت كي لا تحصل مشكلة، فتحصل مشكلة في البيت.
عاشت معي هيلانة كسيدة وأكثر وليس مجرد زوجة، صاحبة قرار في كل شيء ومسؤولة عن كل شيء، القضايا الكبيرة لا نختلف عليها، وأحيانا قضية تافهة تشعل البيت بسبب توتري والخرق الطاقي الرهيب.. نعم تحملت هيلانة أكثر من جبل بسبب هذا، حتى طلاقنا حصل يوم جمعة.
هذا الخرق الطاقي الرهيب، يشعث هالتك فتصطدم مع هالة الآخر في اللحظة الحاسمة والذي يُنفّر الآخر ويشعره بنقزة فينصرف عنك.
كنت أشعر دائما وكأنه ترافقني قوتان غامضتان، الأولى تنكل بي وكأنها تمارس عليّ محاكاة الغرق، وقبل أن أختنق بلحظة تتدخّل القوة الثانية وتنتشلني.
هذا الخرق المدمر مع كل ما رافقه من أشباح، كان بفعل فاعل، أو بشكل أدق بفعل فاعلة، لم أسيء إليها، كل ما في الأمر أني لم أخطب ابنتها، فاستغلت وجود يهوديتن كانتا تسكنان عند أهلها وتشتغلان في السحر فسحرتني.. لم أكن يوما أؤمن بوجود السحر، وأنا القافز فوق كل القوانين والمعتقدات، لكن ما حدث معي يشيب الجدران.
السحر موجود من أيام السومريين والبابليين والفراعنة، وفي كل الكتب السماوية مذكور.. وكل خبرتي في الطاقة وكل من قابلت، خفف منه تخفيفا فقط.
كل الناس تقطع المسافة ممتطية أحصنة، لكنني قطعت كل تلك المسافة ممتطيا نصل السكّين..
في مطلع التسعينيات وبسبب كوابيس وظروف شائكة؛ فقدت ذاكرتي مدة، وكنت حين ألتقي أحدا من أصدقائي أرتبك لأنني نسيت اسمه.
هو وبغريزته يظن لأني انشهرت لم أعد أكترث بأصدقائي، حتى أني نسيت أسماءهم، وأحدهم قال لي مرة: إنزل من برجك العاجي. يظنني في برج، بينما أنا في قبو تحت الأرض السابعة.
كم تُخطئ الناس وتظلم حين تأخذ بالمظاهر.
لا تستطيع أن تبوح حتى للقلة التي تحيط بك، بأن موقدا من الجمر يتوضّع ويتقلّب في أحشائك وفي ذاكرتك، ويكاد أن يتلف جدران كل منهما.. ضيق شديد واحتقان في الصدر حتى الاختناق، وأي موقف صغير يفجّرك.
حتى صاحبة / طائر في الفضاء الوعر / الملكة أمل في ذلك الحين لم تكن تدري شيئا مما يحصل معي، كنت ألتقيها مرتديا ابتسامتي وأحلامي، وحين تسألني عن أموري أجيبها: مليحة.
مغامرة أن تفتح ذاكرتك على مصراعيها، وتدلف إليها وحيدا، وربما لا تستطيع إخراج كل الأمتعة من داخلها لتحوّلها الى كلمات.. لا أحد يستطيع مساعدتك في ذلك، وربما لا تجرؤ على إدخال أحد معك لأنك قد لا تتحمل مسؤولية ما يحصل له.
صدقوني أني أجرؤ على الدخول الى الغابة ليلا، لكن أرهب من الدخول الى الذاكرة، خشية أن أتعرض للإفتراس في لحظة لست مستعدا لها..
الذاكرة لها أنياب تنهشك، وأحيانا تتحوّل إلى قميص من الأسلاك الشائكة، يخزك كيفما تحركت، فتنزّ دما.
في تلك الأثناء كنت أكتب زاوية ساخرة تُضحك الجميع، والكثيرون يقولون: (نيالو ما عندو هم)..
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو