أبحث عن أنا

أبحث عن أنا

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الجزائري محمد خدة

صديقي، سأروي لك حكاية سلوى: 

بيضة, بيضتان, ثلاث, أربع. نام الدجاج وجلسوا يعدّون البيض، فلم لا يكونوا سعداء؟ فالأولاد سيكبرون والأرض ستعطي وكله بفعل الزمن!

مضغا بسرعة ما تيسّر من طعام ودخلا غرفتيهما وأغلقا الباب.. جلست على السرير وجلس قبالتها، عرّاها قطعة, قطعة.. هذه طقوس يصر عليها كإصرار المؤمن على صلاته، دقيقة, دقيقتان, ثلاث, أربع.. بعدها كان يغط في نوم عميق! وهي تخادع النوم ويخدعها، ترى ما حالها؟

ذات يوم, في الصباح مرّت سلوى متعثرة خطواتها بالنسوة اللاتي تعودّن على التجمع على رصيف إحداهن، وسألت نفسها: ترى ما هذه الروابط التي تجمعهنّ؟ يا إلهي ما أسعدهن! وبجهد جهيد قالت: صباح الخير، تعالت الأصوات تدعوها لمشاطرتهن قهوة الصباح.. ودّت ذلك, إلاّ أنها تابعت المسير معتذرة, على أن تلبي في وقت لاحق، وقالت: في الغد قهوتكن عندي. 

سمعت شظايا الحديث كشظايا روحها الممزقة، كان حديثهن عما يدور في غرف النوم، وعن الذي يعرض على المحطات الممنوعة و… تساءلت لماذا إذا هنَّ سعيدات وهي لا؟ وعادت إليها كلمات جدتها وأمها عن جار كان لهم.. «ايفا عليه كان كأفضل الشباب, ولكن الكتب قد أتت على عقله» وتنبهت سلوى نعم هكذا إذاً, وجدت مكمن العلة، العلة في كتبها وأوراقها، واتخذت قراراً على الفور في المساء، وفي طقوس احتفالية, كمن يجرب القبلة لأول مرّة، أحضرت كلُّ ما لديها حتى القصاصات الصغيرة.

عليها أن تزيل هذا الكم الهائل من الحبر الذي شوه نقاء هذه الصفحات البيضاء هذه التي يسمّونها كلمات، ولكن لا لن تزيل الحبر فلتذهب الكتب والأوراق إلى الجحيم, فلتحرقها هكذا أضمن.. وأحرقتها، شعرت سلوى بالارتياح, لكن لم تشعر بالسعادة، نعم السعادة هي ما تريد، يجب أن تشعر بالسعادة وهذا قرارٌ أيضا، وفي صباح ذلك اليوم المشؤوم, والذي لم تدرك سلوى أن النار قد أتت على كل شيء. في ذلك الصباح استيقظت حرّة نشطة على غير عادتها فهي من الآن فصاعداً عليها أن تكون سعيدة ومن أجل ذلك يجب أن تغيّر الكثير من عاداتها فلِم تستمع لفيروز؟ لم تعد مناسبة، عليها أن تتخلص منها أيضاً, أدارت المحطة وبدأت ترقص بهستيرية.

وضعت المساحيق على وجهها لتخفي عري روحها، لكي تخفي ما ظهر ليلة الأمس من أقلام عجز ونفاق، وهو ما أحست به وسادتها، حيث أنها ما إن وضعت رأسها عليها حتى عاجلها النوم، وهي قبل ذلك أحستها مع زوجها حيث نبتت أحاديث طفيلية, تسلقت ألتفت على شرايينها وامتصت دمها ونثرته على جدران روحها، هي من بدأ الكلام سائلة: أسمعت؟ ردّ بحيادية: ماذا؟ وتحدّثت بأسلوب العارف العالم: أميرة في بيت أهلها منذ عشرين يوماً, يبدو أن هذه المرّة غير كل مرّة فقد أخذ الطفل منها, وبعث به إلى أخته كي تعتني به ريثما يجد بنت الحلال.

وبدون أن تتوقف إصبعه عن تقليب محطات الفضائيات، فالصحن القابع فوق سطح الدار كلّفه تسعة عشر ألفاً وفيه ما لذّ وطاب ولا بد من تفريغ محتوياته إلى آخرها كل ليلة.. ردّ بسخرية قائلاً : على ما يبدو إن أميرة ليست بنت حلال, مسكينة صديقتك هذه, إنها أميرةٌ حقاً في كلِّ شيء إلاّ في هذا الزواج.

انتفضت سلوى وقد شعرت بالغيرة, فأميرة صغيرة وجميلة والرجال جميعهم سواء، ودهشت من نفسها ومن تدفق الكلام على شفتيها، ترى متى اختزنت كلُّ هذا الموروث الكلامي وهذه الأفكار, التي تصدح بها حنجرتها؟ قالت: لا تقل صديقتك, ليست صديقتي هذا أولا، وثانياً الحق عليها يجب أن تصبر إن لم يكن من أجلها فلأجل الطفل وربّما كانت هي المقصرة، لقد كانت جدّتي تقول: الرجل مثل الطفل، أمني له منامته ولقمته.

ومع انسياب الكلمات كانت تشعر بلسان جدّتها قد تجذّر في حلقها وأخذ يعلو ويهبط ثم يعلو ويهبط بهذه الأفكار البالية، ودخلت في عوالم نفسها.. آه جدتي أما حان لك أن تتركينا نحيا بسلام اثني عشر عاماً, وأنت تحت التراب, وما زالت أفكارك تعشعش فينا؟ رحمّ الله من أسماكَ رحمة.. ترى ما الذي يريده الرجل؟ ولماذا لا يكون السؤال: ماذا نريد من الرجل؟

نظر زوجها إلى نظرة الفراغ في عينيها وتساءل ترى ما بها؟ وعاد إلى محطاته وكأنه بدأ للتو, نامت هي وعندما تعب نام أيضا.. نعم، استيقظت مبكّرة نشيطة فالشلة ستجتمع عندها، تهيأت لكل شيء, وتفقدت كل شيء وأيّ شيء، العريشة, الياسمينة, شرفة المنزل منافض السجائر، وأخيراً قدمن وقدم صخبهنّ معهنّ. 

سلوى لم يكن بها حاجة لإعداد القهوة فقد أعدّتها وصبت الفناجين إلاّ إن هذا لم ينفعها بشيء فقد تعثرت عند الباب، عادت وسوت ما فسد وخرجت من جديد، سلوى مرتبكة ليس قليلاً بل كثيراً, فهذه أول مرّة يأتين عندها وعليها أن تظهر كلَّ الأناقة والظرف والانشراح، وعندما استقرت الجلسة قالت أم أحمد:

– نعم سلوى أسمعينا هاتي ما عندك.

ابتسمت سلوى بخجل وقالت: ما الذي عندي؟ ارتبكت وأحست بإحساس لم تحس به إلاّ عندما كانت طالبة في الصف الثامن، عندما صرخت المدرّسة: سلوى أجيبي على السؤال.. لكن سلوى سألت عن السؤال بقولها: نعم آنسة ما هو السؤال؟ مبررة بأن القلم وقع وهي تريد أن تكتب به، وعلا صوت المدرّسة وكان أكثر حدة قائلة: وتردّين في وجهي، القلم أهم من الدرس؟ يا لك من وقحة، ستطردين ثلاثة أيام! 

انتهى الدرس وسلوى تفكر أتجلس أم تبقى واقفة؟ خرجت المدرّسة وخرجت سلوى خلفها, لعلها تعتذر منها, لكنها صمتت.. عن ماذا تعتذر فهي لا تعرف عن أيّ شيء تعتذر/ لكن المدرّسة بادرتها بالكلام: لا بأس أنت طالبة مجتهدة وأريد مصلحتك، فكرت سلوى  مصلحتي؟ كيف؟ 

ناهد طالبة مشاغبة ومشاكسة وجريئة وعندما سألتها المدرّسة في الحصة ذاتها عن الوظيفة كان ردّها لم أفهم الدرس ولم أستطع الإجابة على أيّ من الأسئلة.

فقالت المدرّسة: لم تفهمي؟ ولماذا لم تقولي ذلك في حينه لأعيد لك؟ وما هو الذي لم تفهميه؟ لكن ناهد المدعومة وكعادتها قالت باستهزاء: لم أفهم شيء, ولست الوحيدة، كلهن لا يفهمن دروسك، والتفتت إلى زميلاتها سائلة أتفهمن؟ ثم نظرت إلى المدرّسة وقالت: يخفن منك.

وحتى هذه اللحظة سلوى لا تعرف ما هو السؤال المطروح, والسؤال الأهم هنا

أكانت سلوى هي من حقق التوازن لتلك المدرّسة؟ والذي يجب أن تقوله لناهد قد أفرغته لسلوى؟

كررت أم حسان قول أم أحمد تحث سلوى على الكلام، فتشجعت نعم, نعم لقد قرأت البارحة وفكّرت  قرأت البارحة, البارحة أحرقت, علني قرأت هذا منذ زمن بعيد, فليكن، هنّ لا يعرفن.. وأعادت جملتها من جديد ليتثنى لها صياغة الجملة اللاحقة: قرأت البارحة في مجلة نقلاً عن مجلة ألمانية مترجمة، و… تعالت الأصوات المهم, المهم. 

نعم المهم يقول المقال: إن المرأة تفوق الرجل في مجال العاطفة أيّ في الحب والكره؛ لأنها تستخدم نصفي الكرة المخية لذلك يقال أنها عاطفية أما الرجل..

وقُطع حديثها بالضحك، اندهشت فهي لم تتحدث بما يضحك! هل الضحك عندهنَّ عادة؟

علقت سميرة ثماني عشر عاماً قائلة بصخب: يا لظرفك يا سلوى المرأة تفوق الرجل بالحب والكره, ألاّ تفوقه بلـ… وقُطع كلامها بالضحك وتغرق العيون وتختفي, وتغرق سلوى معهنّ تنبهت وفكّرت، ويلي، على ماذا أضحك يسفهون ما أقول وأضحك؟ كلُّ هذا لأنني قلت ما قلت؟ كيف لو أنني قلت لهنّ: لو أن السيلكون حلَّ محل الكربون في المادة الحية, فلن يكون الماء هو الذي يوجد في دمائنا؟ وهو الذي يحفظ المادة الحية, ولن يكون السائل الذي نشربه ونروي النباتات به؟   وتسمّرت على الكرسي وتسألت مَنْ هذه المتطفلة الوضيعة؟ مَنْ هذه الحشرة القابعة على الكرسي؟ ومنذ متى تأخذ الحشرات مكان الصدارة؟ هل هذه أنا؟ أهذه أنا!؟ وبحركة لا شعورية قامت سلوى لجمع فناجين القهوة الملطّخة بالصباغ والتي ربّما قد تحتاج لماء نهر لتنظيفها، وبحركةٍ واحدةٍ قمن جميعهن كأنهنَّ اتفقنَّ مُسبقاً. لم؟ على غير عادتهن؟ ربما لم يطب لهن المقام، وربّما أسفن لقدومهن لكن لا يهم فليذهبن إلى الجحيم. أوصلت فناجين القهوة إلى المطبخ بمسافة وزمن أحست بأنهما الأطول في حياتها، وعندما عادت لتنظف المكان مما علق به، أحست ببقايا العفن الذي تركنّه تغلغل في الجدران وشقوق البلاط وتحت أوراق العريشة وفي أزهار الياسمينة! وقررت سلوى أن تقتل الدخيلة، ومع تنظيف المكان وآخر فنجان كانت قد تخلصت منها غير نادمة قتلت تلك الحشرة، عادت إلى الأخرى تشكو لها، إلاّ أنها وجدتها ميّتة بل قتِلت لحظة إحراق دفاترها, وألمها, وصراخ روحها، وبدأت تبحث من جديد عن أوجاعها الذي لم تحبها يوماً، لكن الآن تشعر أنها مستساغة ذات مذاق شهي. أتكون الآلام والجروح كالخمر كلما عتقت طابت؟ بحثت عن كل شيء عن نفسها عن ذاكرتها, وعندما يئست، تاهت تبحث عن أنا تشتريها, لعلها تجدها في المكتبات أو على البسطات. 

عمْ هل لي بأنا؟ آنستي هل لي بأنا؟ عفواً أيوجد لديك أنا؟ لا,لا..لا أريد شبيه أو مماثل أريد أنا، أرجوك نصف أنا، بعض أنا، الكل يهز رأسه.. إذاً ربما تجدها تائهة في أحد الأزقة أو ملقاة في أحد المستنقعات. وبدأت تسأل جميع من تصادفه إلاّ البشر، فمن يجيد النفاق والكذب كالبشر؟ سألت الجدران العتيقة فربما ولجت من أحد الأبواب المواربة واختبأت، أين يمكن أن تكون؟ قد تكون تحت حبة الرمل هذه، أو ربما غفت في ظل ذاك الحجر بعد أن أنهكها المسير، أوقد تكون تحت جناح هذا الطائر، وربما في برج الحمام هذا الذي هجره من فيه، يا إلهي الجميع سواء، لاأحد يفهمني؟ أين لي أن أجد أنا؟ لا أحد يسمعني فكيف لي أن أجد أنا؟ هل فقدت صوتي؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما وسيلتي للبحث عنه؟ 

تناثرت سلوى على سريرها فخجلت من عريها، تكورت على ذاتها لتخبئ عريها بعري آخر أثقل وأشد وطأة كمن يداري الفضيحة بفضيحة أكبر، وكمن يُكفر عن ذنب صغير فيقع بذنب كبير.

رأي واحد على “أبحث عن أنا

  1. نعم يا عزيزتي
    كل منا يبحث عن هوية
    يبحث عن أناه ويتمنى لو يجدها.

    تحياتي لك.

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.