الغِواية

الغِواية

اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني

في لقاء تليفزيوني مع الصحفي الشهير، سُئِلَ عن أعجب القصص التي واجهته في مسيرته الصحفية، والتي لم يستطع أنْ ينساها، فقال:

في بدايات عملي الصحفي، كنت أقوم بلقاءات صحفية في السجون، أجريت حوارات مع الذين لم يَصدر حكم في قضيتهم، التقيت على مدى أسابيع مع شخصيات كثيرة وسجَّلت حكايات مثيرة للقرَّاء، وأثناء لقائي مع أغلب المتهمين كان يتردد بينهم ذكر «الثلاثي»، وهم ثلاثة سجناء متحدين ومتكاتفين دائما وكأنهم أخوة، رغم أنهم لم يتعارفوا إلا في السجن، فكانت هذه الشهرة دافعا لمقابلتهم لأعرف قصتهم.

التقيت بهم في الفترة التي يتريض فيها السجناء خارج الزنازين، ولما سألتهم قالوا: قضيتنا واحدة. ولكني عندما قرأتها في المحاضر وحين سمعتها منهم، وجدتها قصصا مختلفة تماما.

الأول؛ جمال شاب جامعي لم يتم العشرين بعد، هو الابن الوحيد لأب تجاوز الستين من العمر، توفيت أمّه وهو صبي ، ظل الأب أرملا ولم يتزوج إلا بعد التحاق جمال بالكلية، وإلى الآن القصة عادية، ولكن كانت المفاجأة أنَّ العروس الجميلة سيدة مطلقة في منتصف العشرِينيات.

عاش الثلاثة معا، النية طيبة والمشاعر صافية والمناخ الأسري يسوده الود والسلام، وكان من المتوقع أنَّ زوجة الأب الشابة سوف تَحتشم أمام الشاب، نظرا لأنه في سن شديد الحساسية والخطورة، وهذا الاحتشام لا يعني التحجب، بل الاحتشام المعتدل الذي يساعده على الاكتفاء بمشاعره تجاهها كزوجة أب أو كأخت، ولكن الذي حدث أنَّ الزوجين لم يستترا والزوجة لم تحتشم، عاشا كعروسين في شهر العسل ليس بينهما عزول، الزوجة بملابسها المثيرة والعارية، والرجل لا يخفي لعابه السائل دوما على زوجته، يُطلق دائما تلميحات وإشارات عارية تجاهها أمام الولد، والولد يندهش ويهتز ويُصْدم ويُصعق ويُزَلْزَل، وتكون الطامة الكبرى حين تحرشت به زوجة الأب وحاولت ثقب براءته، بينما الأب يشاهد هذا الاقتراب بسذاجة ويحسبه ودا وأنسا بريئا تجاه ابنه، وجمال يقاوم ويماطل ويبتعد ويعاني ما لا طاقة له به، وتمر الشهور طويلة وكثيرة ولا مهرب للفتى من هذه الفتنة الطاغية، ثم تنهار مقاومته ويستسلم للغواية ويسقط في الخطيئة الكبرى، ويحدث المحظور ويضبطهما الأب، وتتصاعد المأساة حين يهم بالاعتداء عليهم، فيدفعه الولد المذعور لا إراديا فيقع الأب على الأرض فيرتطم بها ويكون حتفه، يؤدي هذا الحدث الجلل إلى افتضاح الأمر كله أمام الجميع، وانتهت المأساة به مسجونا ينتظر بقية القَدَر باستسلام.

ويا حضرات القضاة.. ويا حضرات المستشارين: إن المتهم الماثل أمامكم بريء براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب، وهذا القفص الذي وضع فيه لم يخلق لأمثاله، بل لو أنصفنا لأخرجناه منه وألقينا فيه بالأب وزوجته، فهما اللذان اغتالا براءته، واقتحما حياته وأفسداها مبكرا.

الثاني: سامح شاب في منتصف الثلاثينيات، مَكَث في بلاد الخليج عشر سنوات، وحين استقر بمصر كان قد جمع ثروة طيبة وورث عن أبيه وأمه ما ضاعفها، ثم اشتهرت قصة شركات توظيف الأموال، وأغرته الإعلانات التليفزيونية ونشرات الأخبار، وشاهد أعضاء مجالس الإدارة لهذه الشركات من أعلى الشخصيات النخبوية والسياسية والدينية بالبلد، فالأرباح التي تقدمها الشركات تجعله يأمل أنْ يضاعف رأس المال في شهور قليلة، هذا ما ذكرته الصحف والبرامج وأعلنته النُخَب، من يخطر بباله بعد ذلك أنَّ هناك احتمال نصب؟ هل هناك من يستطيع النصب على هؤلاء الأذكياء والمسؤولين الكبار؟ ووضع سامح كل ثروته في الشركة، وتمتع بالأرباح شهورا قليلة ثم فجأة شاهد أصحاب الشركة وراء القضبان، ورأى الدولة تستقطع أموالها بأمان قبل المصادرة، ثم تترك المساهمين فريسة للمستقبل المجهول، ولاح أمامه خاطر فقدان ثروته، وطار عقله فلم ينتظر كثيرا، وتسلل إلى حفلٍ حضره كثير من هؤلاء المشاهير ورجال الدين، وأحدث هرجا وصَخَبا وقذف بكأسٍ في وجه أحدهم، وانتهى في هذا السجن ينتظر قدره.

الثالث؛ رضا، شاب متدين منذ نعومة أظفاره، يحب الدين ويحب ربَّه، يريد فقط أن يتعبد في المسجد، ولكن من حظه العاثر أنْ حدث تحالف بين السياسة والتيارات الدينية، فامتلأت المساجد بالذقون والأنشطة والفقه وأسماء الصحابة، وظهر في التليفزيون الشيوخ يتكلمون على مدار اليوم بكثير من القنوات الدينية الثرية التي تم افتتاحها وتكريسها لهم، أموال وسياسة ودين، ولم يستطع رضا إلا أن يتأثر بهم، وأطلق ذقنه الكثيفة، ثم انتهى شهر العسل وتَمَزَّق التحالف، ووجد نفسه يُجْمَع مع بقية رفاق المسجد في عربة إلى حيث يحاسبون بقسوة على تدينهم الذي أصبح متطرفا كما يقولون! ومازال في السجن ينتظر قَدَره.

عندما جلست معهم، سألتهم عن سر ترابطهم، ولماذا يقولون إنَّ قضيتهم واحدة بينما القصص مختلفة ومتباعدة!

كان الجواب المدهش؛ إنهم جميعا وقعوا ضحية خيانة أقرب الناس إليهم وأكثرهم ثقة، فالأب بحماقة وجهل؛ أغرى الابن بزوجته، وأوقع الولد في فخ لم يستعد له ولم يتوقعه، ولولا ذلك لسارت حياته في طريقها الطبيعي و لم تنته إلى مأساة.

ورجال المال والإعلام والدين كانوا مصدر الثقة الكاملة بالنسبة للناس، هم الذين أغروهم بتسييل ثرواتهم وضخها في الشركات بأمان واهم، ثم تركوهم يواجهون الخسارة وضياع «شقا العمر» وتحالف رجالات السياسة والدين هو الذي أغرى الشباب بالتدين الأيدلوجي، وأوهمهم سلامة الطريق وأمانَه وشرعِيته، ثم فجأة أنقلبوا عليهم، وانتهى الأمر كما قال رضا: 

– هم الذين أطلقوا لحانا في البداية وهم الذين نَتَفُوها بقسوة وإهانة بعد ذلك!

والحالات الثلاثة كانوا ضحايا لأكبر مصدر للثقة والأمان، ولهذا قرروا قرارا مدهشا؛ أن يتحدوا ما بقي من الحياة ويتكاتفوا بقية العمر، وأن تتقدم الأخوَّة على كل شيء، لا يضن أحد على الآخر بالمال والجهد والمشورة في مسيرة الحياة، لأنهم عندما كانوا ضحايا وحدهم، فكان الألم شديدا، فالحل في ألا يكونوا وحدهم بعد اليوم، والحكمة أنْ يقتسموا ويتشاركوا الحلو والمُر بينهم. 

وأضاف سامح: لم يكن أمامنا سوى هذا الحل، فالآلة الإعلامية والدينية والسياسية وأيضا المجتمعية عملاقة وهائلة، تطحن من يقع تحت أقدامها، ويتضاءل الإنسان أمامها، وهذا ما حدث معنا، وطالما لا نقدر عليها، فلنقترب ونتعاون لنقلل الألم ونخفف الخسارة معا.

خرج جمال أولا بعد تقرير الخبراء بأنَّ الحادث غير متعمد، فأعطى زوجة أبيه ميراثها وجمع ميراثه وسافر إلى القاهرة، وذاب في مجتمع جديد حيث لا يعرفه أحد، ثم خرج رضا ولحق به وسكن بجواره، وقام جمال بدعمه ماليا حتى استقر مساره والتحق بعمل، وعندما خرج سامح وحصل على ما استطاع إنقاذه من أمواله لحق بهم، وظلوا على اتصال ومساندة، يتبادلون الرأي والدعم وشعروا معا بدفء التعاون والتآخي، وعندما زٌرتهم بعد عشر سنوات وهم مجتمعون في بيت جمال، وجدتهم يعيشون في ثقة ورضا ومشاعر السلام.

ثم أنهى الصحفي قائلا:

الذي أدهشني في هذه القصة هو ذكاؤهم النادر، فقدرتهم على استنتاج المشترك في قصتهم ثم إدراكهم بأن أعظم الألم كان بسبب المعاناة الفردية، وتوصلهم إلى أنَّ الإنسان أثمن من المال ومتع الدنيا وأسبابها كلها، وأنَّ صناعة أخوة من غير نسب هي الثروة الحقيقية، دعمت هذه الحكمة التي تاهت عنها البشرية.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.