الإعدام

الإعدام

اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا

صالح الرزوق

قال وهو يتحسس قمة رأسه: حاول أن تنسى.

دفعت وجهي إلى الناحية الأخرى، وراقبت ذرى الأشجار وهبوط الليل، أو ما خيل إلي أنه ليل، ثم تساءلت: هل تظن أن الأمر تم من غير ألم؟

هز رأسه، وقال باقتضاب: من غير ألم.

ثم أضاف: ما رأيك لو أشعلنا نارا هنا؟

تشاغلت برهة بإشعال النار، إلا أن فكرة الموت من غير ألم عادت لتقلقني.. لتنق في صدري بموجات نبضات قلب يختلج، فسألته وأنا ألقي غصنا جافا وسط النار المشتعلة: لا بد أنه تألم ولو قليلا.

حرك صديقي غصنا غليظا عند قمة اللهب قبل أن يقول: ربما، ولكن أرجو أن يكون الليل دافئا، قد نضطر إلى النوم ها هنا.

واستطاع بملاحظته الأخيرة أن يحول تفكيري إلى مشكلة أخرى.

***

كانت الأشجار منتشرة من حولنا في كل مكان، والتربة البودزولية القاتمة تنبسط إلى مسافة بعيدة، وقد أبديت حيرتي بكلمة ما.. ربما قلت: اللعنة! أو: تبا لي، ثم فكرت بوجه الشخص الثالث الذي اختفى من الوجود.. نعم اختفى نهائيا! لحظة استدار ليواجه شجرة الحور كانت ركبتاه ترجفان إلى حد ما، وأظن أنني سمعت صوت الهواء يندفع من بين شفتيه وخارج أنفه أيضا. كان يحاول أن ينطق بكلمة، وبقي كذلك يحاول، حتى أتت طلقة الرحمة. الحق أقول، تلقاها بهزة عنيفة، ثم انطفأت في صدره كل المشاعر، ورأيته يتهاوى، ثم يرتمي على جذع الشجرة. أراهن أنه لم يحس بخشونة لحائها لأنه فارق الحياة فور إصابته، ولم أعط نفسي فرصة كي أشاهد خيط الدم يخرج من مؤخرة رأسه ويبرق على الأرض مثل لعاب الحلزون، لقد أدرت وجهي، ونظرت إلى شجرة أخرى لها فروع قيد التبرعم، إلا أنها كانت في تلك اللحظة تشهد مثلي تنفيذ حكم الإعدام.

***

كادت النار أن تنطفئ، فحملت إليها أغصان نبات عاقول شوكي، ألقيتها فوق النار الراكدة، وقلت بصيغة تقريرية: هل تعلم أنه أحس بمصيره؟

قال: حين ابتعدنا كثيرا خطر له ذلك.

أضفت: والطريق.. سلكنا به طريقا غير مألوفة.

وأصغيت برهة إلى أزيز الخشب المشتعل، ثم قلت بصوت خشن مرتبك: لست نادما على ما حصل، هل أنت نادم؟

وشعرت بسخافة كلماتي.. كنا نحن الاثنين حزينين ومضطربين إلى أبعد حد. أذكر الآن كيف أصبح وجهه بلون الورس الأصفر حينما شاهد شجرة الموت، ابتسم ورمق جذعها الوردي.. ورديا كان، وله انعكاسات ضوئية على حباحب الماء. لم ينتظر كي نبلغه القرار قبل أن يبتسم لنا، وهذا ما لم أتمكن من تفسيره.

– تعرف أنك مخطئ؟ قال صديقي بهدوء وحزم، فهز رأسه على طريقة طفل عنيد اضطر للاعتراف بهزيمته.وتابع صديقي قوله: وإذا.. ثم صمت، وهكذا أبلغه قرارنا.

آنذاك كان الحصن الذي انطلقنا منه بجيادنا يبدو بعيدا كفكرة مستحيلة، كانت الجياد تنقر الأرض بسنابكها وتوقظ موجات متعاقبة من القلق السديمي الذي لا تعرف له سببا، يتوالد في القلوب المثخنة بالشك والاضطراب على شكل عناق الأضداد.

ألقيت نظرة غامضة إلى رؤوس أشياء مبهمة كانت ترفرف فوق المكان وفوق كل مكان، وقلّبت في رأسي فكرة الإعدام.. لماذا اتخذنا قرارنا؟ ماذا فعل؟ وما معنى أن تكون مخطئا وآثما؟

***

نبشت تراب الأرض بأصابع متعجرفة انتفخت في سلامياتها عقد من عظام، وجعلت أذروها في الجهات، ما كنت أتوقع الوصول إلى أعماق الأرض المائية ولا اكتشاف كنوز الملك سليمان، كنت كمن يذر الرماد في عيون بصاصي الليل، ثم التقطت حجرة صغيرة تشبه مكعب إبليس، رميتها في النار وشعرت بحاجة إلى أن أنطق بشيء ما أدافع به عن نفسي، لكن صديقي عاد إلى حركته المألوفة، فلامس قمة رأسه بأطراف أنامله، وفكر قليلا، ثم نهض من مكانه.. كان لوجهه قسوة سماء مدينتنا حين تمتلئ بسحب داكنة، وبحركة مفاجئة انقض على بقايا النار يدوسها بقدميه، وهو يقول: أفضل العودة، لا أطيق البقاء في هذا المكان.

ولما أتم كلامه كانت النار قد انطفأت، ولم أعد أميز في وجهه غير عينيه المتألقتين بالدموع.


صالح الرزوق، كاتب وناقد ومترجم سوري، مواليد عام ١٩٥٩، درس في جامعة حلب وفي بولندا وعدة جامعات بريطانية. له مجموعة من المؤلفات الأدبية، منها «المأساة في الأدب»، «فوكو والجنسانية»، «الحركة الرومنسية في القصة السورية»، «موت الرواية – أزمة الخيال الفني بعد عام ١٩٨٥»، «تحرير الحداثة: الرواية المضادة في أعمال سعد محمد رحيم»، بالإضافة إلى ترجمات في الصناعة والتكنولوجيا. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.