اللوحة: الفنان الأكراني دانييل فولكوف
عليّ أن أقطع المسافة الفاصلة بين اليابسة واليم صبيحة ومساء كل يوم، رحلة لم تتوقف منذ سنوات بعيدة، لم يردعني فيها حر الصيف ولا قرصة البرد، يصحبني مخلص أمين، لا يعصى أوامري، يعشق السير في ظلي، يراني ربّه الثاني على الأرض، يصمت أغلب الوقت يرمقني خلاله بنظرة لم تخل أبدًا من رحمة وودّ، لم يسألني من قبل إلى أين نذهب؟ ما الغاية من مشوار كل يوم؟ لم تساوره هواجس المشقة ولا ضياع الجهد!
أقبض بقوة على مجدافين من خشب، أعلم أنهما على مدار عقود قد تشقّقا من كثرة ارتطامهما بالماء، وقد أدركت بعد فترة أن ثمة تشابهًا قويًّا بين شروق الشمس وغروبها، وبين رحلتي اليومية، حتى حِرتٌ في أمر ذلك وقلت: تُرى من يصحب الآخر؟
غير أني لمّا لم أجد إجابة شافية، آثرت أن أستمر في طريقي، أجاهد في ضرب اليابسة بقوة ساعديّ، أبحث عن برّ أصل إليه قبيل الغروب، فإن وصلت أستأنف سيري لأقرب شاطئ أستلقي عليه ما بقي من ساعات الليل.
لن أعود إلى هناك
حين كوّر عبد التواب، قبضته ولوّح بها في وجوهنا، قال بصوت كالرعد قولته الخالدة: لن أعود إلى هناك أبدًا.. ثم خرّ جثة هامدة.
لم ننشغل بوفاته إلاّ بقدر ما يقتضي الأمر ويقضي العرف، ثم أصبح كل همّنا الوقوف على معنى لعبارته، ذهب شهود الواقعة كلِّ بحسب ما أورده خياله وعقله مذاهب شتّى، انقضت الأشهر والسنوات وقد تناثرت التأويلات وكثرت التبريرات والإيضاحات عن مغزى عبارته المقتضبة شديدة الغموض، لكن بقي أنه أعلن في وجوهنا وبجرأة لم نسمع بها من قبل، أنه لن يعود إلى هناك ثانية!
