ذكريات الكتابة والكُتّاب

ذكريات الكتابة والكُتّاب

اللوحة: الفنان السوري محمد غنوم

فواز خيّو

محاولاتي الدؤوبة في الكتابة ترافقت مع قراءة مكثفة رغم التوترات النفسية. 

من الكتّاب الذين ساهموا في تشكيل شخصيتي ورؤاي: جبران خليل جبران العظيم، ديستوفسكي سورية والعرب والذي تُرجمت أعماله إلى كل اللغات، الذي فتح عيوني على تناقضات المجتمع ونفاقه. كم أحببت روحه وروح ماري هاسكل التي احتوته ومنحته الأمان، وحين أقول عن جبران أنه سوري فذلك لأنه سوري، ووقتها لم يكن قد تم تقصيب سورية وقطع فلسطين والأردن ولبنان منها، وجبران يركز كثيرا على سوريّته، وسورية تفخر به بالتأكيد. 

عمر أبو ريشة، مثلي الأعلى ورمز العزّة والكبرياء، الذي عزز كبريائي وجعلني أتعامل مع أي شخص مهما كبر الند للند، وأن أحفظ كبرياء الكلمة والقصيدة، ولا أسمح لها أن تنحني إلا للحب والحبيبة. 

محمد الماغوط، أستاذي وصديقي الأقرب، الذي جعلني أحترم تشرّدي وعريي، وأتمسّك بهما، هذا أنا فمن يقبلني هكذا فأهلا به، ومن لا يقبلني هكذا فللجحيم. أنا لست مستعدا لتغيير أي شيء بي فقط لأعجب أحدا. 

أنا أتغيّر فقط حين تُبرز الأحداث ما يجدد قناعاتي أو يُغيّرها، حين تُظهر حقائق جديدة، لستُ جدارا، فأنا أجتهد وأتعب لأصل للحقيقة، لا لأثبت ما أنا مقتنع به. وهذا لبّ المشكلة مع كل الفعاليات في المجتمع والسياسة والفكر والثقافة، كلٌ يريد أن يثبت أن قناعته هي الصح، بدلا من أن يكون الجهد منصبا للوصول إلى الحقيقة التي ترضي كل عاقل، وعندها نضع نقطة في نهاية السطر او المشكلة. 

صراع ديوك، وفي النهاية الكل يخرج مُدمّى، وينعكس ذلك على مساحة المجتمع والوطن. 

رسول حمزاتوف الكبير وخاصة في (داغستان بلدي) والذي لم يُعلّمنا فقط أن نحبّ أوطاننا بل أن نحب داغستان أيضا، وأن الكاتب لا يمكن أن يصبح أو يكون عالميا إذا لم يكن وطنيا أولا. وكم من كاتب أغرته عقدة النخبوية والعالمية فانسلخ عن بيئته، لا هو أصبح عالميا ولا بيئته شعرت أنه يخصّها، لأنه أهمل جذوره، أدونيس مثلا. 

كازنتزاكي العظيم وخاصة في سيرته (تقرير إلى غريكو) والذي وجدّته أهم من (زوربا) و (المسيح يصلب من جديد). كم هو غني وبسيط وطيب. 

بضعة كتب إذا وضعتها في مكتبة كبيرة الرفوف والأدراج فانت لديك مكتبة ضخمة. أهمية الكتب ليست في عددها وأغلفتها. 

وقرأت الكثير الكثير من الشعر العربي ابتداء بما يسمى الجاهلي، من عبقرية امرئ القيس والنابغة وعمرو بن كلثوم وعنترة وغيرهم، مرورا بجرير والأخطل، والمتني العظيم الشاعر الأعظم عبر العصور، وأبي فراس الحمداني وصولا إلى شعراء عصرنا، والكثير من الشعراء الفرنسيين والانكليز والروس وغيرهم، ولم أهمل قراءة الروايات العظيمة. 

ما أروع الشعر الجاهلي وأغناه، وأروع امرئ القيس حين قال: 

وقد طوّفتُ في الآفاق حتى 

رضيتُ من الغنيمة بالإياب. 

يلخص سيرة حياتي كلها. الجاهلي الحق من أطلق على تلك الحقبة لقب الجاهلية.

وكنتُ قد درستُ البكالوريا الأدبي ودخلت الجامعة قسم اللغة العربية ولم أكمل، ودخلت الأدب الانكليزي ولم أكمل، وتزوّجتُ ولم أكمل، لم أستطع أن أكمل في شيء، فقط في الحب كنت أكمل حتى آخر ضحكة وآخر دمعة وآخر تلويحة قلب.

***

كثيرة هي الخلاصات التي انتهيتُ إليها: 

لا تعظ أحدا، فاللص يعرف في القانون أكثر منك ومن المحامي والقاضي، لكن مصلحته أو رسالته هي أن يكون لصّا.

الخائن يفهم في الوطنية أكثر منك ومن كل قادة الثورات في العالم، لكن ضميره ضامر، ومصلحته ورسالته أن يكون خائنا ومرتزقا. 

لا تعظ القوادين والعاهرات، فهم يفهمون في الشرف والقيم أكثر منك ومن قبيلتك ولكن مصلحتهم ورسالتهم هذه هي. 

وقس على ذلك، فهؤلاء تمت برمجتهم ولا يستطيع أحد اختراقها أو تعديلها، ولا ينفع معهم شيء. 

إذا أردت أن تعظ توجه لليافعة الذين قناعاتهم وقيمهم قيد التشكّل، فهؤلاء فقط يمكن أنّ تُؤثّر فيهم، فاكسبهم قبل أن تجرفهم اغراءات تلك النماذج. 

لماذا لا تكون في المناهج مادة رئيسية ومُرسّبة هي الحب؟ 

من يحمل الحب يمتلك معظم القيم والأسس لبناء شخصية حقيقية ناضجة. 

المُحبّ لا يمكن أن يكون شريرا ومعول هدم في الحياة والمجتمع. 

***

حين بدأتُ تجربتي الشعرية والصحفية، لم أضع أقراني أمامي ولم أفكر لحظة بالمقارنة مع أحد..

كان أمامي الكبار فقط؛ عمر أبو ريشه والماغوط ودرويش وغيرهم. 

في فترة مبكرة صادقت الكبار: عمر أبو ريشة والماغوط وغيرهم.

سألت عمر مرة: هل تعرف أنديرا غاندي شخصيّا؟ 

قال: اي أبوها صديقي.. تصوّروا هذه الجملة الكبيرة.

امرأة تحكم 700 مليون وقتها، أبوها صديقي. 

نعم صديق نهرو وجون كندي وعبد الناصر والملك فيصل وغيرهم..

حين تصادق هؤلاء لا تعود تشعر برهبة من لقاء أي رجل مهما علتْ مكانته. 

وصادقت وأحببت أجمل النساء، وخاصة صاحبة/ طائر في الفضاء الوعر/، هذا الأمر أيضا جعلني قويّا ولم تعد أية امرأة تربكني، فقد عرفت الأجمل والأهم. 

صداقاتي مع الكبار منحتني حصانة ومناعة نفسية وقوة، فلم أعد أشعر برهبة تجاه أحد، أو يربكني لقاء مع رجل أو امرأة، مهما كانت مكانته أو مكانتها أو جمالها. 

لأني قادم لتوي من قمة، وهذه القمة مستقرة في داخلي..

العلاقة والتعامل مع القمم حتى لو كان مرهقا أحيانا، لكن يريحك كثيرا كثيرا من التعامل مع الصغار..


سر الأسرار

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.