بيت للبيع 

بيت للبيع 

نورا أحمد

اللوحة: الفنان السوري ناصر نعسان آغا

ثمّة بيوت عندما نعلّق عليها لافتة (معروض للبيع) فنحن لا نعرض جدرانها للبيع إذ نعرضها، إنما هي ذكريات لا تُستعاد، ولحظات لم نتمكن من تجميدها في إطار صورة أو تسجيل صوتي أو حتى مرئي، لنعود إليها ذات حنين!

بيت للبيع.

بيت والدي الحبيب لروحه السلام والرحمة ومحبّات كثيرة لا منقطعة، معروض للبيع. هذا البيت الذي كان حلمًا تمناه أبي كثيرًا، وعمل بجدية مفرطة لسنوات طويلة حتى يصير هذا الحلم حقيقة. ولا زلت أتذكر تفاصيل الليلة التي اقترب فيها الحلم المتخيل ليصير حقيقة، حينما أنهى المهندس المعماري مخطط العمارة. تلك الليلة التي لا زالت ماثلة في وجداني والتي لن أنسى ما حييت ملامح وجه ابي الحبيب فيها، عندما دخل علينا جَذِلًا مبتهجَا وهو الذي قلّ أن يتبسم.

كان الوقت بعد صلاة العشاء في مدينة الطائف التي كان يحلو لوالدي أن يسميها مدينة البسطاء، وهي مدينة جبلية تقع جنوب غرب السعودية، مدينة تسترخي بكسل متعمد بين السُحب، ويُدللها المطر بالهطول المستمر، وتكافئها الأرض بدوام جمال الطبيعة من شجر وزهر على مدار العام. أتذكر الآن تلك الأمسية الصيفية ونحن نمارس الروتين العائلي اليومي؛ بدءًا من تحضير وجبة العشاء المتواضعة بانتظار وصول والدي الوقور الصامت من صلاة العشاء، ثم تنتقل بي ذاكرتي إلى المشهد المعتاد من تحلقنا حول السفرة المفروشة على الأرض، وأحاديثنا المتفرقة بأصوات خفيضة احترامًا لمجلس والدي الحبيب، حتى نصل الى اللحظة التي يصبح البيت فيها هادئاً لا يسمع فيه صوت.. وهي ساعة النشرة الاخبارية، والتي يتابعها والدي باهتمام في كل ليلة ونحن نتململ منتظرين مسلسل السهرة اليومي، والذي غالبًا لا يلفت انتباه والدي فيذهب للنوم. ولأن الحياة في منزل أهلي تتسم بالرتابة كانت أمسية مختلفة تلك التي عاد فيها والدي الحبيب حاملًا حلمه بين يديه. في ذلك المساء تحديدًا لم يكن أبي على عادته. ما إن فتح باب المنزل حتى أخذ يهتف بصوته الجهوري الحجازي الشجي وهو يصعد الدرج: 

(يا اولادي جبت العروسة، جبت العروسة يا اولادي، العروسة الجديدة.) وصل صوته اليّ وانا جالسة في صالة المنزل الذي كنّا نقطنه حينها. ذلك المنزل القديم الصغير الذي طالما احتوانا بعددنا الكبير، واحتوى الزائرين الدائمين من اخواتي المتزوجات واطفالهن، وإخوتي مع عائلاتهم وعائلات أعمامي. ان أنسى فلن أنساه وهو يزف الينا الخبر بحبور لم أعتده منه، سألناه متعجبين:

ايش يا بابا؟ مين العروسة؟

جمعنا حوله، وضع المخطط على الارض، وبدأ بفتحه وهو مستغرق في الشرح بابتسامة لم تغب إلا في مرات قليلة، حين بدا عليه أنه يفكر في مراجعة المهندس لإجراء تعديل أو ربما هكذا خيل اليّ حينها، لأن والدي يتمتع بشخصية قيادية ويفضل ان تتم الامور على طريقته. 

بعد هذه الامسية التي عرفت فيها وجه سعادة ابي الحبيب بفترة لا اتذكر الان كم كانت، بدأ والدي ببناء المنزل. ومذ بدأ بالبناء حتى الانتهاء غادرته الابتسامة التي ظلّت هناك في تلك الامسية الحالمة البعيدة. بناه بجهد الكادحين. وتعب جِدًّا في تأسيس أعمدة البيت الصلبة العريضة لكون الأرض فيها نبعة ماء، وكأننا بوجودها كنّا موعودين بأن نسكن فوق بئر عتيقة كريمة تشبه والدي، لنتعلم كيف أن العطاء المتواصل والتدفق الجميل لا يمكن دفنه بل يجب الاحتفاء به والامتنان لأجله. أكمل والدي بناء البيت الجديد الضخم الكبير بمساعدةٍ من أخي الأكبر الحنون.

كان قرار والدي بأن يكون البيت الجديد بهذا الحجم ليعوض الضيق في المنزل القديم، وكأن لسان حاله يقول: 

“مرحبا بالكل، ها هو بيت كبير لا تضيق فيه الصدور بضيقه”..

انتقلنا اليه، وأخذ والدي الحبيب يزرع الأرض خلف العمارة نخلة نخلة، كرمة كرمة، وملأه بشجرات رمان وتين! حتى أزهر النعناع والريحان وأزهرت الأرض وظللت كرمة العنب المدخل، فكنت كلما مشيت تحتها أفكر بمدى عظمة أبي وصبره! أظن بأنني كنت الأكثر سعادة بهذا البيت الجديد، فقد تمكنت فيه بأن أمارس فرط حركتي متنقلة بين الشقق والمزرعة الصغيرة مستمتعة بطول الدرج، حتى أنني كنت لا أنام كثيرًا لكي أستمتع بوقتي الطويل في الليل مُصاحبةً النجوم والسماء والشجر والقمر. دأبتُ في الاجازات الصيفية الطويلة على الاستيقاظ مبكرة والنزول إلى حديقتنا التي صيرها أبي الحبيب إلى واحة جميلة.

فالتقي والدي الحبيب في مجلسه بجوار المزرعة الصغيرة وهو يحمس قهوته ويطحن حبات الهيل ثم ينتظر القهوة ليصبها مع الهيل الطازج ويعبق المكان بنكهة الصباح، وأشاركه مجلس لا يُمل وهو يشربها مع حبات التمر صحبة من يكون مستيقظا حينها. 

تحقق حلمك يا أبي وحضر الجميع إلى بيتك الكبير يا كبير القلب والعقل. اجتمعت العائلة كبيرها وصغيرها لأول مرة حينما تزوج أخي، والذي كان زفافه بعد انتقالنا للبيت الجديد مباشرةً. وكان البيت كما يقولون “يسع من الحبايب الف” بيت بمساحة (1600متر) لابد أن يسع الجميع، إلا أنني كنت أفكر دائمًا: حتى بيتنا الصغير احتوى الكل واتسع لهم! 

تعددت الاجتماعات العائلية اذ كان حبيبي أبي يفضّل أن يكون مضيافًا على أن يكون ضيفًا. مرّت الأيام كريح عاصفة وتزوجنا جميعًا. فرغ البيت منّا وبقي أبي الحبيب. 

بقيت الجدران والحديقة المزروعة والدرج الكبير والموزع الواسع بين الشقق الأربع، وحوش كبير بخيمة صيفية لطالما ملأناها سهرًا وضحكات وبكاء في بعض الذكريات! مرض والدي بعد زواجنا وأظن أن الحنين كان سبب أول جلطة أصابته. أو ربما الندم يتكثف في الوحدة فيأكل قلب الانسان؟ ترك بيته وذهب إلى جدة ليكون في رعاية أخي الأكبر وعائلته، وهذا ما كان، التف كل أولاده وبناته حوله وكنا نفديه بالمعنى الحرفي والفعليّ للفداء بقلوبنا وأرواحنا. كنا نبكي انهيار جبلنا ونبكي ضعف قويّنا الذي منح من نفسه ولم يكن ليلبي لها مطالبها إذ يهدف إلى ترك حياة كريمة لنا. وبعد صراع طويل دام ل ٤ سنوات رحل حبيبي.

كرهت حتى مروري بالشارع الذي يقبع فيه بيتنا بالطائف. ولم أرغب حقًا حتّى بدخوله أو الاجتماع فيه مع كائنًا من كان. فبعد رحيل والدي لم يعد للجدران ولا الحجر والطوب والشجر وكل ما في الطائف من معنىً أبدًا!

عُرضَ البيت للبيع وبسعرٍ مجز إلا أننا لم نبعه، لأن البعض ربما تمسكوا بالذكريات. وأي ذكرى بعد رحيل صاحبها أهم وأبقى من أن نحسن لسيرته ونحسن إلى بعضنا! ولكنني كنت اتفهم شعور الرافضين للبيع لأن هذا المكان ليس إلا روح في وجدانهم. أمّا أنا، ومع هذا الشعور المكثف بالحب نحو كل ذكرى عشتها في هذا البيت إلّا أنني لم أعد أحب المكان، ولا أتمكن من الحياة فيه بدون الذي كان مؤنسي فيه. ربّما برحيل صاحب الدّار لم يعد للدار معنىً سوى ذكريات، استرجعها في صباح كهذا وأنا أكتبها. 

اليوم عُرض البيت مجددًا للبيع وبسعر بخس. وأظن أن الكل يجمع على البيع، ربما هدأ في القلوب ذلك الشعور الأليم بالتعلق بالمكان! وأنا كما أنا مع البيع منذ أول يوم وحتى آخر يوم.

هذا البيت ليس جدران صامتة وأعمدة عريضة قاومت الماء عُمُرًا، وليس الغرف والممرات والأثاث.. أعرف هذا تمام المعرفة. وأفهم أن يكون المكان بالنسبة للبعض هو روح حية، ولذلك يصعب التخلي عنه. ولكن، ربّما في بيعه تفريج كربة البعض أو حل مشكلة عالقة لأحدهم. وهذا النبل من الذين يتمسكون بالبيت هو أجمل ما يمنحه الباقي للراحل، لأن أسمى غايات الوالدين في انشاء أبناءهم.. أن يؤلمك ألم أخوك وتسعدك مسرّته. عندما يباع البيت أخيرًا سوف نحزن جميعًا، وحزن المتمسكين به أكبر، ولكن تذكّر يا انسان:

“نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة 

فكيف آسى على شيءٍ إذا ذهبا”.

رأي واحد على “بيت للبيع 

  1. رحيل الأشخاص والبيوت لا يُمحى من الذاكرة، بل يبقى أثرهم في الروح مهما تغيّرت الأماكن. أسأل الله أن يرحم والدكم ويجعل ذكراه طيبة وعطرها باقيًا بينكم.

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.