اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا
في منتصف العمر، كان لي صديق وزميل في العمل، كان قليل الأصدقاء؛ نظرا لأنه يطرح التساؤلات بمجرد ورودها على الخاطر؛ دون أن يفلترها أو ينزع عنها أشواكها، كان يعترض أنني دائما عندما يتسنى لنا وقت فراغ، أنشغل بكتاب في يدي بينما يشتبك الزملاء في حوارات متعددة لا تنقطع، ومع أني بجانبهم أكاد لا أشعر بهم.
في تلك الأيام؛ هجرت الروايات والكتب غير الدينية، وتفرغت للقراءة من صندوق واحد ومن المكتبة الدينية فقط، وكنت أظن أنني أستغني بذلك عن أي قراءات أخرى خارج الصندوق.
وعلى حين غرة كما يقولون، وجدت صديقي ينخلع من حديثه معهم ويوجه لي سؤالا طاف بخاطره طويلا ولم يعد يحتمل ألا يطرحه.
قال لي: السباك ينال رزقه من السباكة، والطبيب من الطب، وأنت من الهندسة، فماذا تنال من القراءة؟
حاولت أن أجيب، وأشرح، وأضرب أمثلة، ولكن لم أستطع أن أشفى فضوله بجواب مقنع، فهو يريد إجابة شافية تحول المحصول إلى مال يصلني من قراءتي.
لم أفلح في إقناعه، لكني لاحظت أمرا أخر؛ بينما كنت أجيب على سؤاله كنت متوترا وعصبيا، وكلما زدت في محاولة الإيضاح والتبرير، كلما زاد توتري، في ذلك الوقت؛ عزوت هذا التوتر المتصاعد، إلى الفجوة المعرفية والثقافية بيني وبينه، وأن العيب فيه هو، فمثله يصعب عليه أن يفهم قيمة الثقافة ولا يرضى لأي شيء إلا أن يدر مالا كعائد له.
استراح ضميري لهذا التفسير المتعالي المغرور؛ لعجزي عن إقناعه. ولكني لم أستطع ابتكار تفسير يريحني ويقنعني؛ حتى فهمت فيما بعد.
مرت سنون وأصبحت قراءاتي في كل اتجاه وخرجت من الشرنقة التي كنت فيها؛ سألني صديق آخر نفس السؤال، ولكن بأسلوب مختلف.
قال: قد كنت كما تقول داخل الصندوق، وكنت راضيا عن نفسك ونحن راضون عنك، واليوم تدعي أنك تقرأ خارج الصندوق، فكيف ترى إيمانك، وموقعك، ومشاعرك وأنت خارج الصندوق اليوم؟
أجبته دون تفكير وبكلمات قليلة.
لم يكن إيماني حرا وأقرب لليقين كما هو اليوم.
كنت أحمله فأصبح يَحملني ويهديني.
كنت أعيش له فأصبحت أعيش به وفيه.
كنت أُشمر له فأصبحت أسبح فيه.
كنت أجعله فِلترا لمحبتي ونصرتي فلا يمر خلاله إلا المسلم، فتوقفت عن إهانته، وجعلته دنيا مفتوحة تسع كل الناس.
كنت أعادي به باسم البغض والعداوة في الله، فتوقفت عن الغرور والادعاء، واستبدلت العداوة بالرفق والرحمة بكل البشر.
كان ضيقا فاتسع، كان منقبضا متوترا فانبسط، كان يغمرني شعور العبد الغارق في الإثم اليائس من الطهر، البعيد عن الرضا، المستحق دوما للوم والتوبيخ، فأصبحت حرا من هذا الجهل، فصرت أري ذنوبي تجاه ربي، قطرات عرق تتساقط من بشريتي، وتُغسَل بطهور التوبة والإحسان، صرت أرى ذنوبي في حق الناس هي الخطيئة العسيرة على التطهر، فبعدت عنها واجتنبتها كما يتجتنب الشرك بالله.
ضحك مني ثم بسط يديه متمثلا كعازف للكمنجة، ليصدر موسيقى وهمية، لتلحين كلماتي التي رآها شعرا مصطنعا وكلاما بلا عمق. فقلت له أما وقد استهنت بكلامي وأهنته فإليك الخلاصة.
“لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.. “فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون”.. “الحساب يوم الحساب”.
كانت وظيفة أحد العمال الضغط على جهاز التحكم لإحدى المكائن، ثم يقوم “السير” بعدها بنقل المنتجات من مكان إلى آخر، فإذا بالعامل بعد تشغيل الماكينة؛ يقوم بتحريك ودفع المنتجات بنفسه فوق السير، فيعرقلها ويُكدسها ويُتلفها بتدخله، ولو تركها وفعل فقط ما عليه؛ لسار الأمر على الغرض الذي خصصت له الماكينة.
ثم في نهاية اليوم يتساءل العامل: لماذا هذا العرق والإجهاد الذي نالني؟، بل لماذا الفشل؟
فوظيفتي مريحة، كيف تجهدني هكذا؟ هذا بالضبط هو سر توتري عندما سُئلت السؤال أول مرة.
فقد كنت أبذل مجهودا استثنائيا في القراءة الدينية وفي بذل الجهد لتطهير نفسي، وكان السر المستتر وراء حَرجي؛ أنني بالفعل مجهد للغاية؛ رغم هذا المجهود المعرفي الضخم؛ ورغم المجهود التطهري القاسي، لم أنل الشعور بالرضا عن نفسي والإنجاز لي أو لديني.
كانت هناك ثغرة مستترة في فهمي، تطيش بها سهام أعمالي، وتهدر بها جهود التزامي وطاعتي، هذه الثغرة هي أنني كنت مثل هذا العامل، كما يقول المثل: “أطبل في المطبل”، ثم يضل عني ما هو واجب عليّ فعله. وسر هذا الشعور هو فهمي أخيرا كثيرا من قول الله تعالى؛ (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ).. (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل (
لم يجعل الرسول حفيظا ولا وكيلا ولا مسيطرا على الناس، وجعله مبلغا وهاديا وداعيا، وهذا هو سر عدم توتر الأنبياء في دعوتهم، أنهم يعرفون حدود رسالتهم، فأصبحت أقول ولا أحرص على تلقي الاستجابة بالقبول أو الرفض، لأنني أؤمن أن الإنسان حر في الإجابة عن سؤال الإيمان، والحساب يوم الحساب.
