اللوحة: الفنان الإنجليزي إدغار هانت
صبحي السلماني

قبل أن تستوي الشمس على ذرى التلال من جهة الشرق، وقبل أن يجف النبت وأوراق الشجر الندي من البلل، في الوقت الذي كان فيه بضع دجاجات يقفن على الدور، كان الديك يطبطب بجناحيه فوق دجاجة الجيران، تلك التي انفردت عن صويحباتها اللواتي أرهقتهن السنين وأصابهن الهرم، ولم يعد يصلحن إلا للقرقرة ونبش الروث، والطواف بين الحضائر والدُمن. قبل ان ينهي المهمة التي من أجلها تحمل نقنقة وقرير الدجاجات المنضويات تحت سلطانه، وهو يغرز منقاره في عُرف معشوقته من الخلف ويواصل الطبطبة، أجفله طنين كائن مَرَّ مثل لمح البصر من جهة عينه التي فقدها في آخر نزال مع واحد من أكثر ديوك القرية قدرة على العراك. وكمن لم يسمع طنين من قبل، غادرته فحولته وصار يشعر بإحراج شديد من تلك الدجاجة الوافدة. لكن الإحراج الأكبر حين أحاطته عِلماً، بأن الكائن الذي أفزعه لم يكن إلا ذبابة…! ذبابة؟! ولكي يداري خيبته كان رده: سوف أقتص منها وأجعلها عِبرةً لكل متطفلٍ أخرق. وحتى لا تغيب عن ناظره وتهرب، بين الطيران والجري بخطا وسيعة، من قمامة إلى قمامة، ومن جدار الى جدار صار يتعقبها. ولأنه لم يترك لها مجال لأن تلتقط أنفاسها، صارت تشعر بإرهاق شديد، وقبل أن تخور قواها وتفقد القدرة على الطيران، صارت تحلق على ارتفاع منخفض، على أمل أن تجد لها ملاذاً آمناً، تتوارى خلفة أو تتخفى به. لم تجد أمامها إلا قنينة خمر فارغة كان أحدهم قد ركزها على قارعة الطريق، وما أن استقرت بداخلها، ربما بسبب القصور في الذاكرة الذبابية التي لا تصمد طويلاً أمام عامل الوقت، وربما رائحة الخمرة التي لم ينته مفعولها بعد، هي من عبثت بلبها وأنستها الجرم الذي اقترفته. هدأ روعها، والتقطت أنفاسها، ومن ثم استلقت على ظهرها، وكأن شيئ ما لم يكن. لكن الذي جرى في تلك الأثناء، أن صاحبنا المتحفز بكل جوارحه والمتنمر، حين رآها تتخفى داخل القنينة، ساورته بعض الشكوك حيال أمرها، إذ كيف يصح أن مخلوقاً يستدرج نفسه بنفسه إلى منطقة القتل، فصار يلف حولها ويدور، وفي كل محاولة اقتناص كان الزجاج يتصدى لمنقاره العظيم. وهو الذي كانت له صولات وجولات في سوح الوغى، وحلبات النزال… لم يكن بحاجة إلى من يخبره بأنَّ عز الطيور يكمن في مناقيرها..! حين وجد أنَّ منقاره في طريقه إلى التشظي هدأ قليلاً وبطريقة أكثر عقلانية صار يفكر، وبتقدير موقف ذهني سريع، وجد أنَّ أفضل وسيلة تمكنه منها هو: أن ينزل إلى مستوى تفكيرها، ويسلك ذات الطريق الذي سلكته. وكمن يهيئ نفسه للعراك، نفش ريشه، وأفرد جناحيه، وبشكل جيد ركز مخلابيه في الأرض، ومن ثم اشرأب بعنقه وأمال رأسه إلى جهة العين السليمة، ومن فوهة القنينة بتأملٍ شديد صار يتمعن فيها. وهو الذي كان يتوقع ان يجدها ترتجف فرقاً، استشاط غضباً حين وجدها ترقد على ظهرها بسلام. أيتها العاهرة…. قال في داخله: سوف اجعل منك عبرة لكل من يحاول أن يعكر صفو حياتي. بكل تأكيد هو لا يعرف وكيف له ان يعرف بأن المخلوقة المستعصمة في القعر قد نسيت الموضوع برمته، وصارت تغط في نومٍ عميق. لم يعطِ لنفسه ما يكفي من الوقت لتقييم الموقف وتقدير المسافة بشكل دقيق، كان قراره وهو يحشر رأسه بشكل جنوني من خلال الفوهة، قراراً متعجلاً وغير مدروس. لم يكترث وربما لم ينتبه للرائحة التي أدمعت عينه اليتيمة، فهي على سوئها ليست أكثر بشاعةً من رائحة البراز والروث. لم تمكنه قائمتاه وهو يضغط بهما على الأرض، ولا جناحيه اللتان يحتضنان القنينة من الخارج أن يذهب برأسه وعنقه أكثر من الحد الذي يسمح به قطر الفوهة، لم تزل المسافة التي تفصله عنها بعيدة، بعيدة جداً إلى الدرجة التي جعلته يعتقد، إنه بحاجه إلى عنقين أو ثلاثة أعناق مربوطة على بعضها كي يدرك الهدف. صحيح إن الانسحاب لم يكن أفضل خياراته، لكن حين تستقفل الحلول ويصبح تحقيق التماس مع العدو أمر مستحيل، يبقى الانسحاب المنظم أحد الخيارات المتاحة وصفحة من صفحات المعركة، لذا قرر أن ينسحب لكن ليس إلى بعيد، على الأقل كي يعطي لنفسه فرصة لإعادة التنظيم ومعاودة الهجوم بطريقة تمكنه من إدراك الهدف بوقتٍ أسرع وخسائرٍ أقل. لكن، ربما بسبب الجهد الذي بذله من قبل، وربما بسبب الخدر الذي صار مثل دبيب النمل يسري في عروقه، رغم كل المحاولات وآخرها التمرغ على الأرض لم يتمكن من تحرير رأسه بعد أن علق في فوهة القنينة، وربما هي من علقت في رأسه. الدجاجات المنضبطات، واللواتي لم يبرحن َمواقعهن بعد، وهن يراقبن الموقف عن كثب، استشعرن بأن ديكهن ليس في أفضل حالاته، وربما يحتاج إلى مساعدة، وإن قرارهن البقاء في وضع المتفرج ليس بالقرار الصائب، بخطى حثيثة اتجهن صوبه، وكلٌ على طريقتها حاولت أن تقدم له المساعدة، لكن جميع تلك الطرائق لم تجدِ نفعاً، وكمحاولة أخيرة تمكنت إحداهن من كسر القنينة بواسطة حصاة حملتها بمخلابها ونقرت بها على الزجاج، .وحين تجلى رأسه من الجانب الآخر للفوهة، رغم إنه لم يزل عالق فيها، صِرّنَ شبه متيقنات بأن المشكلة في طريقها إلى الانفراج، وإن تحريره من القيد الزجاجي الذي يطوق عنقه أصبح قاب قوسين أو أدنى . لكن حين وجدنه قد أغمض عينه اليتيمة وفقد الوعي، وإن عرفه الوردي قد تغير لونه وصار يميل إلى الزرقة أو السواد، وكمن يستجدي غَرفة هواء بين الحين والآخر تنفرج فلقتي منقاره…! حينها فقط، صرن متيقنات بأن حياته في خطر، وأن كل الجهود التي بذلت من أجله عدا عن الفرصة التي منحت للذبابة كي تستعيد رشدها وتهرب، لم تكن ذات قيمة. وعلى سبيل طلب النجدة، وربما دعوة استقدام لشهود عيان لكي يبرئن أنفسهن من جريرة ليس لَهُنَّ ذنبٌ فيها، لم يدخرّن وسعاً في القرقرة وإثارة الصخب، الأمر الذي استفز ديوك القرية برمتها، وجعلها تتجه مسرعةً إلى مكان الحادث، لكن احداً منها لم يولِ أي اهتمام للجسد المسجى على الأرض!، وهي تتقاتل فيما بينها وجدت أن الفوز بجناح دجاجة أكثر نفعاً من إنقاذ حياة ديك منفلت كانت عينه قد زاغت على دجاجة للجيران.