تصريح بالدفن

تصريح بالدفن

اللوحة: الفنان الهندي مقبول فدا حسين

لم تكن حياته أشد غرابة من موته. فقد عاش على هامش الدنيا، رضي منها بمساحة صغيرة يتحرك فيها. رأيته شاهدًا حيًّا على نموذج سمعت به، عن آدمي لا يمتّ لعالم البشر بصلة،  باهت في تجواله بين الناس، شاحبة تفاصيله حتى يكاد المرء بصعوبة أن يلحظ مروره بجواره!

فلمّا جرى عليه ما يجري على كل كائن حي، جاء أجله، وجدنا صعوبة في استخراج تصريح الدفن، الورقة الرسمية الأخيرة قبل دخوله من بوابة الآخرة. فلم نجد ما يثبت وجوده بالواقع! 

مشكلة عويصة إذ رفض الموظف المسئول التعامل معنا إلاّ حينما رأى ورقة رسمية أخرى موقّعة من محافظ البنك المركزي، فألقى بالتصريح في وجوهنا، بالورقة النقدية في درج مكتبه السفلي من جهة اليسار ثم حوقل واستعاذ وأعطانا ظهره.

في السرادق، اجتمعت نسوة قريبات للميت وبعض الجارات، كنّ ساهمات شاردات ومنهن لاهيات بأمورهن وحياتهن.

 على مقربة يجلس أخو المرحوم، يجاهد في استحلاب دمعة يبكي بها فقيده فما وجد فالتفت إلى النسوة يرجوهن أن يندبن أو يلطمن، أخبرهن أن العويل والبكاء الصارخ يجلب الحزن من الأعماق ومن خلفه تفور الدموع كشلال من الأعين، غير أنهن لم يجبنه إلاّ بابتسامات وبعض غمزات بينهن ولمز وإيحاءات غير مستحبة.

مات “أحمد خليفة”، البنّاء المشهور في مقتبل شبابه، الكهل “الفواعلي”، ثم الشيخ المتسول ما بقي عمره، الهارب من أحكام غيابية بالسجن لا يعرف مجموعها كما نسي أسباب صدورها.

مات الرجل المعجب بنفسه، الوسيم كنجوم السينما، فما شعر بفقدانه أحد، وما بكته النسوة، كما أصابت المقرئ غصة فامتنع عن التلاوة وانشغل بقراءة صفحته الشخصية على “فيس بوك”.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.