اللوحة: الفنان الفرنسي جـان باتيـست دوتـاي
فواز خيّو

حين كنت يافعا؛ كنت إذا جاءنا ضيف أهرب من البيت حين يكون والدي غائبا؛ كي لا يطلبوا مني أن أذبح الديك أو الدجاحة للضيف..
لم يكن هناك محلات فروج.. لا أستطيع أن أرى منظر الدم، فكيف أكون أنا من يُسيل الدم.
أن تضع سكينا على رقبة دجاجة وتراها ترفرف بذعر، محاولة منع روحها من المغادرة. ثم ترى رأسها مفصولا عنها.. ذلك منظر رهيب.
كنت أهرب من البيت، وحين لا أهرب؛ أرفض أن أذبح الدجاجة، متحمّلا التشكيك برجولتي..
يا ألله..
كم نحتاج من الجحيم لنستطيع استيعاب؛ كيف يستطيع رجل أن يضع سكّينا على رقبة رجل آخر، ثم يرفرف كتلك الدجاجة، ثم ينفصل رأسه عنه.
لم أنس تلك المناظر المريعة في عدرا، وبعضها لأناس كنا نعرفهم.. أي دين وأية عقيدة تبيح أن يتحوّل الانسان الى وحش ضار. وأي وحش. وتحت صرخات الله وأكبر..
***
تربّينا على موروث مخز؛ الدم والبطولات والسيف وغيره.. هذا تاريخنا؛ جزّ الرؤوس.
تاريخ يجب أن نرميه جانبا، إذا أردنا الدخول الى الحياة والزمن.. نحن خارجهما حتى الآن. لم نتربّ على زرع الورود والحب..
حين يتعرّض إناء لخضّة؛ فإنّ الحثالة التي في القاع تتحرك وتنهض وتطفو على السطح. والمجتمع هكذا، فالمجتمع السوري تعرّض لخضّة هائلة ونهضت الحثالة من القاع وغطت السطح، نصفها راح مع النظام، ونصفها مع المعارضة، وصرنا بين رحى الحثالتين. وفوق ذلك جاءت الحثالات من شتى الأصقاع، وكل حثالة وراءها دولة ومصلحة.
سورية الذبيحة المعلّقة على واجهة الجزارين الكبار، وكلّ يريد اقتطاع قطعة منها، ونحن ليس لنا سوى طلب الرأفة من هؤلاء القصابين الذين يلتهمون كل شيء، حتى السكاكين.
في كل حرب، معروف هؤلاء طرف وهؤلاء طرف، لكن في الحرب السورية نصف المعارضة يشتغل مع النظام، ونصف النظام يشتغل مع المعارضة، والدول التي تدعم النظام والدول التي تتظاهر بدعم المعارضة نراهم شبه حلفاء، يلتقون بمحبة ويضيّفون بعضهم الموز وغيره بفرح.. طالما أنتم متفقون فلماذا يتقاتل أتباعكم على الأرض ويدمّرون البلد؟
يا لهذه العبثية والجنون.. لك ولنا الله يا سورية.
***
سنة البكالوريا عام 1979، كان جاري أسامة عزام، مدرّب الكاراتيه في السويداء. والذي جمعتني به علاقة محبة قوية، وقد أصبح بطلا عالميا، ونال عدة بطولات عالمية، وهو في الخمسين وبعد الخمسين. وهذا استثناء كبير في الرياضة.
علاقتي بأسامة آنذاك، أججّت لديّ نشوة الشعور بالقوة. وأحببتُ تلك اللعبة. ولم أتدرب. لكن كنت أتمرّن لوحدي أحيانا، رغم محبتي لأسامة فإني أحمد الله أننا افترقنا بحكم العمل ولم تأسرني نشوة القوة.
مغرية القوة سواء كانت عضلية أو عسكرية، وهي فائض أي لا بد أن تستعمل أحيانا في غير موقعها ليتفرغ الاحتقان.
هذه القوة غالبا ترتكب الظلم، سواء على صعيد الأشخاص أو الدول.
قضينا سنة رائعة، ولا زلت أذكر تلك الليلة حين نسيتُ ابريق الشاي يغلي حتى أصبح الشاي مرّا وأسود كالدبس. حاصرني حاملا الننشاكو (زوج من العصا يربطهما جنزير رفيع يستعمله لاعبو الكراتيه)، والمفتري نضال الجرماني من جهة أخرى، وأجبراني على شرب الإبريق لوحدي. نال بطولة العالم عدة مرات، وحظي في بلغاريا بمكانة كبيرة، حيث درّب فريقها لسنوات، وكان كلما حاز بطولة فردية أو مع فريقه يرسل لي: حبيبي أبو الفوز تُوّجت اليوم بكذا، مع صور التتويج. جاء إلى السويداء واتفقنا على اللقاء، وقبل أن نلتقي توفي في ظروف غامضة. الغاز يملأ الشقة وهو هاو على أريكته.. القاتل أو القتلة سممّوه وفتحوا أسطوانة الغاز، حتى إذا دخل أحد وأضاء الكهرباء أو أشعل سيجارة يحترق البيت والجثة ومعالم الجريمة.
مع هذا لم يصل التحقيق إلا إلى الحائط. كان ذلك عام 2016 رحمه الله.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو