هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان البريطاني هنري مينيل ريام
صديقي..
دخلت بخطوات خجولة برفقة والدها, الذي كان يحرثها بعينيه وجلاً عليها من تحمل المسؤولية, والتي قد لا تكون مؤهلة لحملها في مثل هذا العمر؛ فهي ليست لديها أيّة خبرة في مجال العمل، ومن الآن فصاعداً سيكون لديها أمانة يجب نقلها إلى طلابها بكل جد. جلس قليلاً وبعد أن أطمئن على الجو العام وخرج محملاً إيانا ابنته كأمانة نحملها.
فترة من الزمن مرت ليست بطويلة استأنست الفتاة ونظرت إلى ما أكتب وقالت: أكتبي عني.. ابتسمت وقلت حسناً عندما تبوحين لي سأكتب عنك، وتحدثت في سري ماذا يمكن أن يكون وراء تلك العينين الصافيتين كجدول, كغدير ماء صاف, لا بد أنه سيكون لهو طفلة أو دموع مراهقة، وبعد أيام سنحت لها الفرصة حيث كنت أجلس بمفردي معها، قالت بتردد سأتكلم لكن، قاطعتها قائلة: لا, لا, لابأس، لا تتكلمي إذا كان هناك ما يُقلق أو يُحرج، أجابت بتصميم بل سأتكلم.
قالت كلمتها هذه وكأنها ترزح تحت حملٍ ثقيل تريد أن تلقيه عن كاهلها، نظرتُ إليها, إلى تلك العينين وقد تلبدت بغيوم شتاء وأختلط فيها الأحمر بالأسود، وانسابت الدموع الحارة على الخدين الدافئين فأصابتهما بالصقيع. وفكّرت.. يا إلهي كيف تحول صفاء هذا الجدول إلى هذا السيل المختلط؟ وما هذا الحدث الذي تخفيه؟
تكلمت وقالت: أحببته بصمت وأحبني بصمت لكنه غادر بنفس الصمت. رددت عليها قائلة:هو لا يحبك، فمن يحب لا يستطيع أن يغادر الذي يحبه، اختنقت بكلمتها, لكنني فهمت ما قالت.. قالت: لقد توفّي! مسحت عينيها واستقامت بجلستها، لكن أنا من تكوم على نفسه, واختلطت مشاعري وتمنيت أن أبكي, لكني غالبت دمعي, فكيف يمكن أن أمدها بالقوة وأنا أبكي على كلمة (توفّي)؟ أما هي، فهي تلك التي عانت من الفقدان.
تماسكت, وقلت لها: عزيزتي ما زلت صغيرة وغداً تسقط الأمطار على الأرض المحروقة وتنبت الأعشاب من جديد، قالت: نعم هذا هو الذي حدث. رددت: إذاً ما المشكلة؟ قالت: الآخر غادر. عندها صعقت وقلت: مات؟ قالت: لا، سافر إلى بلد بعيد.
لم استطع الكلام, فإن كان توفّي, أو سافر, أو تركها, أو أُجبر على تركها لا يهم, فجميع الحالات فقدُ بالنسبة لها, وإن اختلفت الحالات بالنسبة لهم.. قلت: صغيرتي ماذا أقول لك, تعددت الأسباب والفقد واحد، كلاهما تركا ما تركاه في القلب.. الأول حرقة والآخر طعنة، المهم أنت وقدرك هذا, فالذين تتعلقين بهم يغادرونك، الأول تواطأ مع الموت ضدك وأسلم الروح طائعاّ للموت بدلاً عنك, تاركاً حرقة ألم، أما الآخر قارنك مع المال, وفضّله, تاركاً طعنة غدر.. صغيرتي.. أنا لا أتكلم عنهما فكلاهما نساك, أنا أتكلم عنك، يجب أن تنسيهما كي يتسنى لك الاستمرار, كي تستطيعي العيش، وأقول لك: لو أن قيسا تزوج ليلى لكان جُنَّ منها بدل أن يجنُ عليها, ولتسرب العشق من شقوق الحياة اليومية.
عزيزتي.. إن أعيننا تحتفظ بآخر صورة للذين يغادروننا، ونغلق أذهاننا وآذاننا على أجمل المواقف وأعذب الكلمات، نحن نكبر وتتبدل مواقفنا وافكارنا, أما هم تبقى صورهم وأفكارهم ومواقفهم كما هي، نشيخ ونهرم ويبقون شباباً، فقط لو أننا نستطيع تبديل صورهم مع مرور الأيام, كما تتبدل صورنا, وأن نبدل أفكارهم ومواقفهم مثلما تتبدل أفكارنا ومواقفنا, فقط لو يكبرون كما نكبر ويتغيرون كما نتغير، فقط لو يهرمون, لكنا استطعنا أن ننسى.. لكن كلمة أخيرة أقولها، الزمن فقط، الزمن لا غير، وكما سقطت الأمطار أول مرّة, ستسقط ثانيةً وينبت الربيع، لكن أتمنى ألا يكون لفقد ثالث.