محمود دياب من المسرح المتمرد الى السينما

محمود دياب من المسرح المتمرد الى السينما

اللوحة: الفنان الروسي أرشيب كوينجي

د. حمدي سليمان

عُرف عن الكاتب الكبير محمود دياب بأنه متمرد لا يركن إلى حالة ثابتة بل يلح على تجاوزها، فقد نشأ فى مدينة الاسماعيلية التي شهدت الكثير من المظالم العنصرية منذ ولادتها، وعاصر بنفسه كيف كان التميز بين المصريين أبناء المدينة وبين الأجانب المستعمرين، الذين كانوا يعيشون في أحياء راقية ولهم كل الامتيازات والحقوق والأفضلية عن أصحاب البلد، الذين خٌصصت لهم أحياء فقيرة معدومة الخدمات ليحيوا فيها حياة بائسة، يتفشى بينهم الجهل والمرض والاستكانة والرضا السلبي بالمصير المحتوم، وهو ما جعله يتخذ موقفا متمردا من ذلك الوطن والإنسان والعالم. وكانت أداته في ذلك هي الكتابة الإبداعية، وكانت بدايته التي عرفه بها الوسط المسرحي مسرحية “بالزوبعة” 1964 التي قدم من خلالها صورة للقرية المصرية وما بها من ظلم وخوف، ثم قدم “الغريب” 1966 ليوضح مآسي الحروب وما ينتج عنها، ويؤكد على قيمة العمل ودوره في أعاده الحياة والأمل للأفراد، ثم كانت مسرحية “الضيوف” التي تناولت حياة قرية ريفية تعيش في أسر أفكار لا يقدسها ولا يحترمها غير أهلها البسطاء الذين تخلفوا عن الزمن، ومسرحية “البيانو”،  وغيرها من الأعمال التي كانت تؤكد أن وراءها مبدعا متميزا يغوص في واقع مجتمعه، ويدافع عن قضاياه، ويقدم نقدا اجتماعيا واعيا، لا يرمى فيه بالمسئولية على كاهل المواطنين الضعفاء قليلي الحيلة، بل يطرح ويفضح ما وراء ذلك من أسباب لهذا التخلف وهذه الاستكانة والسلبية. لذا حاول بكل ما أوتي من حس اجتماعي نبيل أن يؤدي دورا تنويريا، وأن يمارس هذا الدور بأمانة ومسئولية وبالكثير من الوعي بألا تنحرف كتاباته وتصبح شعبوية معدومة القيمة، ومن ثم فهو حين يطلق أحكامه فإن عليه اللجوء لمذكرة دفاع واضحة لا لبس فيها، فالمبدع مثل الجراح الماهر يمكن أن يفتح جرحا ولكن من دون أن يسيل دما لأن غايته هي العلاج وليس التمتع بوخز الألم في أجساد الآخرين، خاصة إذا كان الأخرين هم أهله وناسه الذين ذاقوا مرارة سنوات الاحتلال والتميز حتى كانت أنتفاضتهم مع ثورة يوليو وتأميم القناة التي حركت القوى الكبرى ضدهم في 56 مرورا بهزيمة 67، لذا سارع دياب مع بداية عقد السبعينيات وتوقف حرب الاستنزاف، وموت الزعيم، وانهيار الحلم القومي الناصري، وإعلان “الحكيم” (عودة الوعي) لشرائح النخبة الذي عليهم نبذ العدل الاجتماعي لصالح الديمقراطية، وفقا لرؤية الغرب الليبرالية لها، إلى إعادة النظر في قضية العلاقة بين الزعيم الحاكم والمثقف الواعي، فكتب مسرحيته الرائعة التي سوف نتوقف معها لاحقا “باب الفتوح” والتي قام “سعد أردش” بإخراجها عام 71، وأوقفت الرقابة على المصنفات الفنية عرضها في البروفة النهائية، مما أحبط “دياب” ودفعه لكتابة ثلاثة نصوص قصيرة تبدو عبثية الصياغة، دون أن تبارح واقعها المجتمعي، وهى “الرجال لهم رؤؤس” و”اضبطوا الساعات” و”الغرباء لا يشربون القهوة”، حملت معا عنوانا عاما هو “رجل طيب في ثلاث حكايات” بنبرة ساخرة تكشف عن أن هذا الرجل الطيب سيبقى وحيدا ومقهورا وغريبا في وطنه بسبب غفلته المتشحة برداء الطيبة. وعقب معركة أكتوبر المجيدة عام 1973 وما صاحبها من متغيرات لم يكتب “دياب” للمسرح سوى نص قصير بعنوان “أهل الكهف 74″، حذر فيه من عودة رموز الإقطاع القديم والتمهيد للثورة المضادة، ولم يتح له بالطبع العرض الجماهيري، ونصوص طويلة هي “رسول من قرية تميرة”، للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام”، بتأثير مؤلم من مباحثات الكيلو 101 بين مصر وإسرائيل، والتي انتهت بانسحاب ضخم للقوات المصرية من الضفة الشرقية للقناة بعد عبورها الكاسح في 73، ولم يعرض هذا النص إلا بعد رحيل دياب بعام، و”قصر الشهبندر” الذي أخرجه “كرم مطاوع” على مسرح البالون بعنوان “دنيا البيانولا” 75، ثم نصه الأخير “أرض لا تنبت الزهور” 1979، منفلتا بموضوعه من اللحظة الواقيعية لحضن التاريخ والأساطير المصاغة حول شخصياته، بعد أن أحبط في الواقع المصري والعربي معا، وتسلل التشاؤم لرؤيته للعالم، فأعلن استحالة السلام بين الأعداء والأشقاء معا، بعد أن روت دماء المعارك الأرض المحبة للسلام. كما قدم لنا مبدعنا الكبير بنفس الروح والأحساس بالمسؤولية عدد من القصص والروايات منها: خطاب من قلبي – الظلال في الجانب الآخر – أحزان مدينة “طفل من الحى الغربي” رواية، وهى اشبه بالسيرة الذاتية – الزائدون عن الحاجة – دنيا أخرى أو عشرة أيام – الصيد الأخير – رأس محموم في طائرة –  بيت أولادي – شارع الصمت – الحب لا يحترق – قضية عم مسعود – هندية ورجل على حصان – السلفة.

محمود دياب والسينما

بعدما تسللت حالة الإحباط إلى محمود دياب مع أواخر السبعينيات، وأضطره الواقع المشوه المعلق على أحلام الانفتاح الاقتصادي، ومواقف الرقابة المتعنتة من مسرحياته، قرر أن يخوض مغامرات إبداعية في عالم السينما، خاصة بعد أختار المخرج الفلسطيني الأصل “غالب شعث” روايته (الظلال على الجانب الآخر) ليكتب لها السيناريو والحوار ويخرجها في فيلم بذات الاسم، تحمس له (جماعة السينما الجديدة) المتمردة على الواقع السينمائي الراكد، وهو ما جعل المخرج حسام الدين مصطفى يلجأ لكاتبنا كي يعد له صياغة سينمائية لروايات “ديستوفسكى” التي يعرفها جيدا، فصاغ له قصة وسيناريو عن رواية (الأخوة كرامازوف)، بعد أن نقل أحداثها من موسكو إلى الفيوم، الذي عرض باسم (الأخوة الأعداء)، وحقق نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا. مما دفع حسام مصطفي للجوء مرة أخرى إلى “دياب” لإعداد روايات أخرى للكاتب الروسي، وبالفعل أنجز له فيلمه (سونيا والمجنون) الذي عرض في يناير 77 عن رواية (الجريمة والعقاب)، وحاز على جائزة احسن حوار في مصر عام 1977 ومن موسكو على جائزة احسن فيلم نفذ عن قصة الجريمة والعقاب منافسة مع الفيلم الامريكى والبريطانى لذات القصة. ثم فيلمه الثالث والأخير معه، وهو (الشياطين) عن رواية بذات الاسم للكاتب الروسي، وقد عالج من خلاله موضوع الجماعات الوطنية التي تبرر الاغتيال الفردي كوسيلة للتحرر الوطني، ويدين الفيلم بشدة هذا الاغتيال، الذي برره فيلم (في بيتنا رجل) لبركات 1961، فكاتبنا يؤمن بالكفاح الوطني، وبعدالة قضية البسطاء في المجتمع، لكنه لا يبرر أبدا الاغتيالات الفردية، التي قد تقضى على أبرياء دون أن تحقق أهدافها الحقيقية، فحركة الجماعة عنده هي الأصل في الكفاح على كافة الأصعدة. وقدم له حسام الدين مصطفي ايضا “دموع الملائكة” و”إلا الدمعة الحزينة”،  وكتب دياب القصة والحوار لفيلم “إبليس في المدينة”، أخراج سمير سيف، وذكر المؤرخ والناقد الكبير “محمود قاسم” في موسوعته السينمائية أنه معد عن رواية (الأب الخالد) للكاتب الفرنسي ”أنوريه دى بلزاك” والمعروفة باسمها الفرنسي (الأب جوريو)، وأخيرا فيلم  أنتجته سوريا في نفس عام رحيل كاتبنا، وكتب السيناريو له وأخرجه “محمد شاهين”، عن مسرحية (البيت القديم)، إضافة إلى مجموعة من الأفلام التليفزيونية المصرية التي أعدها دياب نفسه أو غيره لقصص ومسرحيات له، ولا ننسى ما قدمه دياب في بداية أعماله قصة (الظلال في الجانب الآخر) التي انتجت فيلما سينمائيا وحازت على جائزة احسن فيلم في دول العالم النامي. ورواية (طفل في الحى العربي) عام 1972 التي ترجمت إلى الفرنسية واعدت مسلسلا  في الإذاعة.

الولع بالثقافة الشعبية

كما أهتم دياب بالتراث المصري والثقافة الشعبية، ورأى فيهما أهم أبعاد الشخصية المصرية، وظل يفتش في حكايات شعبها عن هذا السمات الثقافية والحضارية التي صبغت هذه الشخصية بصبغة خاصة، وراح بإبداعه الراقي يأمل أن يرتفع بوعيها لمصاف الدول المتقدمة، مما فتح أبواب الإبداع أمام موهبته الفريدة، التي قدمته للحياة الأدبية والثقافية، وفي سياق بحثه عن سمات الشخصية المصرية وفنون الفرجة عندها، التقت أفكاره بأفكار “يوسف إدريس” التي أعلنها نهاية عام 1963 بمقالاته الداعية إلى (البحث عن مسرح مصري / عربي)، وبمسرحيته الفريدة (الفرافير) 64، وكذلك دعوة “توفيق الحكيم” المنادى بالكشف عن قالبنا المسرحي المصري، المتضمن الحكاواتي والمقلداتي والمداح، وكذلك دعوات ابن مدينته الناقد على الراعي للعودة لجذور فنون الفرجة الشعبية، مما حفز “دياب” لكتابة أصفى وأقرب النصوص الدرامية المحققة لهذه الدعوات، فكتب “ليالي الحصاد” 1968 التي تتناول مفردات حياه ليوم أو ليلة من ليالي قرية مصرية هدها الشقاء والخوف وما بها من تناقضات وحرمانات يرويها دياب في نص من أروع ما قدمه لنا من نصوص والتي بعث فيها ألاعيب التقليد الساخر من الصبية للكبار في حفلات السمر الريفية المصرية، مع استفادة من تقنية التمثيل داخل التمثيل الغربية، ملمسا في نصه على الفوارق الاجتماعية بين البسطاء والأعيان، ومستعيدا موقفة من المنسلخ عن جذوره، سواء بالهجرة من الحي الشعبي للحى الراقي “البيت القديم” أو من القرية إلى المدينة، وعلى يديه يتحول حفل السمر الريفي إلى مرثية تكشف عن حجم مأساة الفوارق الاجتماعية داخل القرية، وهو ما سيعاود طرحه بقوة في نصه “الهلافيت”، الذي كان يحمل قيمته الفكرية والجمالية التي قدمت مساحة جيدة للهلافيت للحضور والانتقال من السخرية اللفظية من شياطين القرية ومفسديها إلى التمرد وبزوغ شمس الثورة على من أذلوهم تاريخيا وواقعيا، بعد أن استعادوا هوياتهم الضائعة، وإنسانيتهم التي سحقها الفقر والقهر والاغتصاب، لقد صار هؤلاء الهلافيت هم أبطال المسرحية، والمتمنين السيطرة على قعدة السمر، بأمل أكبر في السيطرة على نظام المجتمع. وربما يكون نص باب الفتوح هو النموذج الأهم الذي قدم لنا من خلاله درسا جيدا للتعامل مع المادة التراثية، وكيفية توظيفها لخدمة أفكار المبدع وأراءه، وأيضا للإفلات من سطوة الرقابة الموجودة في كل مكان وزمان. لذا سوف نتوقف قليلا معه للعرض والتحليل، لما يحمله من سمات وأفكار وألاعيب هي الأقرب لعقل ووجدان وهموم كاتبنا الكبير محمود دياب. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.