اللوحة: الفنان الأميركي روبرت اوردونو
فواز خيّو

أحيانا تصادف شخصا مُخزيا وتصطدم مع (الحيونة) التي تُتوّجه. تتمنى عندها أن ترمي بكل رأسك وحمولته، ويكون لديك ذراعان قويتان وتكسّرعظامه. لكن حين أعود الى هدوئي أندم على شعوري ذاك، لأنني لا أحتمل ان أؤذي أحدا، حتى لو كان مُخزيا.
لاحقا، وخاصة بعد دخولي علم الطاقة، أدركتُ أنّ القوة الحقيقية تكمن داخل الروح، وفي استجلاء العوالم الداخلية للنفس، في صنع واستجلاء السلام الداخلي.. تكون قويّا بقدر ما تعرف وتكتشف نفسك.
ربما الظروف التي عشتها خلقت بي ازدواجية حادة، جعلتني أمتلك قلب قديس وطبع دكتاتور. لا أحتمل ولا أستطيع أن أؤذي نملة، وفي نفس الوقت كدكتاتور أو طفل حاد لا يحتمل أن يُرفض له طلب.. هذه الازدواجية مرهقة، ولا زالت معي حتى الآن.
شيآن أحمد الله والأقدار عليهما:
الشيء الأول أني لم أدخل سلك الجيش كوظيفة؛ مع أني خدمت سنوات كمجند ولم أتطوّع كضابط. لأني لا يمكن أن أتخيّل نفسي أضغط على الزناد، لأقتل شخصا، حتى لو كان عدوّا أو مجرما.. لا أستطيع أن أنهي حياة شخص مهما كان شرّيرا ومرتكبا، وليس من حقي. لم أخلقه أنا لأميته. لا أملك الصلاحية في ذلك. أنا شاعر وكاتب، ولدتُ لأكتب، لأعشق، لأزرع الحب والورد لا لأزرع القتل والموت.
والشيء الثاني هو أني لم أدخل مجال القضاء. لا يمكن أن تكون عادلا تماما. كقاض أحيانا أنت مقتنع ببراءة من هو أمامك. لكن الأدلة والنص يجرّمانه. وعليك اتباع النّص. حتى حين تكون القضية واضحة؛ كقاض، لا يمكن أن تكون عادلا تماما. ثمة ظلم لا بد أن يكون قد وقع. ولا أستطيع تحمّل أن أظلم أحدا. لأنني عندها سأظْلم، (بضم الألف وفتح اللام)..
حتى أنه حين تشّعبت وتطورت عناصر الحياة والجرائم لم يعد الاعتراف سيّد الأدلة، فقد يعترف الشخص بجريمة كي يُنجي ويُنقذ شخصا يحبُه، وقد يعترف بجريمة بسبب تهديد بقتل أحبته أو بسبب دفع مبلغ كبير من المال من المجرم الحقيقي، وهذا يحصل في عوالم المافيات، وتكون هنا قد برّأت مجرما طليقا وقد يرتكب المزيد، فأية كارما تستطيع تحملّها).
وأعود للقوة: القوة الحقيقية والرجولة، هي أن تكون مُحبّا. هي من تمنحك السلام الداخلي. وهي من يزيح عن كاهلك عبء ظلم ما، قد تكون ارتكبته في لحظة ضعف. هي من تحميك من الكارمات السلبية؛ ارتدادات أخطائك وخطاياك. حين أركّز على الحب دائما، فهذا ليس ترفا أو زعبرة. بل لأني أدرك قوة الحب وقدرته على الحماية الذاتية والمجتمعية، وأريد للآخرين أن يكونوا محبّين وأقوياء.
****
حين توظفتُ في جريدة الثورة عام 1986 سكنت في غرفة في جرمانا. كانت الغرفة مُطلّة على بستان كبير، قبل أن تزحف كتل الإسمنت القاتلة وتلتهم كل خضار جرمانا كما الغوطة.
كنت قد اشتعلتُ بحبّ (ق) صبية رائعة كاتبة قصة قصيرة، أقضي الساعات معها سواء في بيتهم في السويداء، أو في المدينة الجامعية بعد أن دخلت الجامعة. كتبتُ لها (سفر في الجنون) أول ديوان صدر لي، ورغم انها أحبتني بشكل خلاب إلا أنها لم تستطع اتخاذ قرار الارتباط، كان الخرق الطاقي المريع عندي ينعكس عليها فيربكها ويمنعها من اتخاذ القرار.
وحرصا عليها من ألسنة الناس الذين يعلمون بحبّنا، ولكي تستطيع تكملة حياتها افترقنا.
بعد افتراقنا بمدة مرّت إلى الجريدة لزيارتي مع أحد أصدقائي وكان زميلها في الجامعة، ولم أكن مداوما يومها.
كانت انسانة طيبة رائعة ذكية، جعلني الافتراق عنها قشة بين الأمواج، وأسيرا لكوابيسي. وهي المتفوقة المكتنزة بالأحلام، تركت الجامعة من السنة الثالثة وعادت إلى القرية. تزوّجتْ زواجا تقليديا من أحد أقربائها، وأعرف أنها عانت الكثير مع أن سمعته محترمة بسبب اختلاف العوالم والطبائع، وقد التقيته ذات صدفة وتعامل معي بكل الاحترام، ولم أسأله عنها مع أن طيفها كان منتصبا أمامي طوال الجلسة بكل ألقها وكبريائها، وقد قال لي أحد أقربائها أنه لم يرها حتى في الشارع منذ سنين طويلة، حبستْ نفسها في البيت. قطعة لحم بترها جزّارغاشم من جسدي، كان رحيلها.
حين يكون وضعك الطاقي سليما فإنّ هالتك كشعر امرأة مسرّح وسابل، وحين تكون مُخترقا طاقيا تتشعث هالتك، فحين تقترب من شخص تريد منه شيئا؛ تصطدم هالتك المشعثة بهالته، فيشعر بنقزة ونفور منك، وربما بالخوف فلا يتجاوب معك. الخرق الطاقي يسببّه الحسد أو العين أو السحر. وكلها طاقات سلبية هدامة.
****
غرفتي في جرمانا كانت ملتقى للكثير من الشباب من مختلف المشارب. كان البلد خارجا لتوه من المحنة التي سببها الإسلاميون والتي بدأت عام 1980 لثلاث سنوات، وقضية رابطة العمل الشيوعي التي يقال بأنها حضّرت لشيء من العمل المسلح ضد النظام وتم اعتقال كل عناصرها.
كانت نقاشاتنا تمتد لساعات طويلة آخر الليل، وكان المخبرون لا يغادرون البستان حتى الثالثة فجرا. كنت أشفق عليهم خاصة في البرد.
كنت أتساءل: ما الذي يدفع بعض الأحزاب للتفكير في العمل المسلح؟ هل هي المراهقة الثورية أم الاحتقان والوصول إلى اليأس من إصلاح الأمور؟.
في الخمسينيات والستينيات حيث كان المدّ القومي كبيرا، والأحزاب تستقطب الكثير من الشباب، كانت حظوظ الإسلاميين في الحد الأدنى، وفي دمشق خسر مصطفى السباعي زعيم الأخوان المسلمين في دمشق الأموية، وفاز خالد بكداش زعيم الشيوعيين، وفي حماة المتهمة غالبا بالتشدد، كان أكرم الحوراني يحصد معظم الأصوات، وحين اجتاح الرئيس أديب الشيشكلي ابن حماة السويداء؛ لينتقم من سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى بسبب تأييده لمؤتمر المعارضة المنعقد في حمص، كانت حماة أول المحافظات التي تمرّدت ضده، وفي الكثير من البلدان العربية هكذا.
إن قمع الأحزاب الفكرية خلق فراغا كبيرا في الساحة وخاصة بين الشباب، وكون الإنسان بطبعه يسعى إلى عقيدة أو سارية ينتمي إليها؛ فقد وجدوا ضالتهم في الدين، وهرعت التنظيمات الاسلامية لملء الفراغ، وملأته بالسواد والموت والضلال والظلام، بدلا من الدين الحق مع الأسف. لا أظلم إذا قلت إن الحكومات العربية وبدون قصد، جعلت نفسها الأب الشرعي الذي أنجب التشدّد والتنظيمات الإسلامية.
امنحوا الحرية للأحزاب والناس وسوف تتقلص، ومن ثم تختفي تلقائيا كل هذه اللحى التي تتاجر بالدين.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو