اللوحة: الفنان السوري إسماعيل أبو ترابة
نهلاء توفيق

يدي ترتعشُ وأنا أضغط على كبسةِ جرس الباب قبل أن تفتَحهُ برائحةِ عطرها الأخّاذ: عفوا، أنا باحثة اجتماعية من وزارةِ الثقافة في مهمةٍ استطلاعية، هل لي بالدخول؟
– بالتأكيد، تفضلي عزيزتي.
موسيقى هادئة، الزهور تملأ المكان بتنسيق جميل، الترتيب جعلَ عينيَّ تتلصصُ يمنةً ويسرة، الفضولُ يكاد يقتلني، فتوقِفَهُ يدُها التي تمتدُّ نحوي بفنجانِ قهوةٍ لامعٍ مزخرف: تفضلي، هل تتذوقي قطعةَ شوكولا مع القهوة!
– آه، نعم، نعم، يبدو أني سرحتُ في موضوع بحْثِنا، فهو متعب أختاه.
– لا عليك عزيزتي، فلنبدأ إذن.
هندامها وشياكتها جعلت خيالي يغازلها وأنا المرأة، فكيف به هو إذن؟
– هل أنتِ موظفة أم ربة بيت؟ بادرتُها بسؤالي في قلقٍ بادٍ حاولتُ تلافيهِ بابتسامة.
– نعم، معلمة روضة، ولكِ أن تتخيلي كم هم متعبون، ولكنها وظيفة أحببتها.
– نعم نعم.. هل لديك أطفال؟
– في الطريق إن شاء الله، فأنا الزوجة الثانية لو تعلمين.
– أها زوجة ثانية، أستغرب من قبولك هذا وأنتِ المثقفة الواعية!
– اقتنعت بالأمر بعدما شرح لي الأسباب، فرأيتهُ محقاً ويحتاج لزوجة.
بادرتها باستغراب: وهل يصُدقُ الرجل؟ كيف تحكمين على صِدقِهِ وأنتِ لا تعرفينَ زوجته؟
– تكفيني رائحة قميصهُ وجوربه من دليل، ثم استدركت: هل تعرفين أنه يأكل الكبّة من يدي بشراهةٍ لأنه لم يذقها من سنين؟
ظِلّي أحبَّ هذه الثلاثينية اللبقة والتي لا تصغرني كثيراً؛ ولكنّي تمنيت لو أن بيدي قطع لسانها.. هببتُ واقفةً: أستأذن!
– ولكنكِ لم تكملي الأسئلة؟ بل لم أرَ سؤالاً مهماً؟ والاستطلاع؟، والقهوة!
أسدلتُ وشاحي فوق رأسي واستعجلتُ الخروج، اصطدمتُ بالباب، وبرجلٍ وسيمٍ دخل منشرحَ الوجه عطرهُ فواح، قال لي: عفواً، ركضتُ هاربةً قبل أن يعرفني،
تعثرتُ بجلبابي فوقعتُ على الدرجِ بعدما سمعتُ صوتُ الباب وهوَ يُغلق.
درويش
مذ زواجنا وأنا أحرصُ على أن أستلَّ منه قول أحبك.
– لا أفتح لك الباب حتى أسمعها.
– أحبك.. افتحي يا مرأة.
***
– أريد ثروداً بلحم خروف.
– كل يوم ثرود؟
– ولحمتان.
– لن أعطيك لحمةً أخرى حتى أسمعها.
– أحبك.. هاتي يا مرأة.
***
– سأتابع فيلم الخميس.
– تعالي.. تعالي.. أريدك
– كم مرة ستقولها؟
– كثيرا.. كثيرا!
***
إنه غبي يا أمي، لا يقول لي أحبك إلا بالتهديد.
– ها ها ها.. يا بنتي هذا قروي، لا يفهم في هذا الكلام، هو يهتم بالتطبيق دون التزويق. زوجك درويش فحافظي عليه ولا تخسريه.
***
كم أنتِ طيبةً يا أمي، أنتِ الدرويشة وأنتِ التي تفهمين في التطبيق دون التزويق، وعلى نياتك جداً يا أمي. العمارة التي ورثتُها عنكِ كانت رائعةً جداً، هو الآن يشبعني حباً ليل نهار، وحتى أني نسيت أن فلم الخميس يعرض لأول مرة. لقد أثبت لي أنه يجيد قولها وحتى لو كان الغداء مثرودة، نعم يا أمّ، جربتها يوماً عندما حضر جائعاً، ولكنه لم يُصدم فأكل بنهمٍ وبعد أن أكمل ظل يُتبع القبلات بسيلٍ من أحبك.. أحبك.
***
إنه يجيد كل شيء يا أمّ.. كل شيء، وحتى احضار باقةٍ من الزهور في عيد ميلادي، وحتى الاعتناء بطفلنا وأنا متعبة… كل شيء، ويا ليتك بيننا الآن فترينه كيف يغطيني بحنان ويذهب للمطبخ فيغسل الصحون. ألم يقل لكِ يوماً عندما أصبتُ بالأنفلونزا: والله يا عمتي لا أجيد غسل الصحون؟!
هناك سرٌ أودعكِ إياه أمي: هذه ال أحبك لها رائحة لا أستسيغها رغم أنها كالطلقات واحدة تتبعها أخرى على عجل.. قبَّلتُ السعفات والتراب الذي فوق رأسها وأقفلتُ راجعة.
درويش: صفة عند أهل الشام تُطلق على المسكين الطيب والذي على نياته.
المثرودة: أكلة عراقية تؤكل أوقات الشحّ والعوز تتكون من خبز وماء وسمن وبصل وبهار.