مسرحية باب الفتوح لمحمود دياب واستلهام التراث

مسرحية باب الفتوح لمحمود دياب واستلهام التراث

اللوحة: الفنان الفرنسي نصر الدين ديني

د. حمدي سليمان

هناك الكثير من الأعمال الإبداعية التي استخدمت عناصر التراث، كإطار ومضمون، حيث حاول الكثير منها العودة إلى التراث الشعبي على مختلف أنماطه المتنوعة والمتعددة، لاستلهام كل ما هو حي وأصيل، يمكنه أن يلهم الأجيال الجديدة على صناعة مستقبل أفضل، مع التأكيد على ضرورة مجادلته والوقوف على ما به من عناصر يشوبها المبالغة ومفارقة الحقيقة والواقع، حيث المخزون التراثي الشعبي ليس إيجابيا على طول الخط، فهو يحتوى على الكثير من العناصر السلبية، التي تقف عائقا أمام حركة تقدم وتطور المجتمع ككل، أو تغفل جزءا من نضالاته لصالح من بيدهم الحكم، ولا خجل في تعرض بعض الأعمال الإبداعية لمثل هذه العناصر بل والتصدي لما يعيق طبيعة وطموحات المرحلة، وهو ما لا يقلل من أمانتها ومحبتها وحفاظها على الثقافة الشعبية كما يتوهم البعض، وتهدف عملية الاستلهام في معظمها إلى التأصيل لهذه الأعمال الإبداعية، والاشتباك الرمزي مع واقع النص أو زمن وواقع العرض، وهذا ما حاول فعله محمود دياب عندما لجأ إلى التراث ليستلهم منه نص (باب الفتوح)، فقد ارتبطت دوافعه بمجموعة من التحديات المتمثلة في ترسيخ الكثير من المؤرخين والكتاب إلى صورة البطل المقدس لشخصية صلاح الدين الأيوبي، وهو ما أنتج صورة ذهنية استقرت في العقل والوجدان الشعبي وانتشرت في كافة ربوع الوطن العربي والاسلامي، صوره مثالية طمست معها العديد من الحقائق وأغفلت الكثير من المظالم وتعالت على آلام ومعاناة الشعب المصري الذى قدر له أن يدفع فاتورة حماية المنطقة على مر التاريخ، مضحيا من اجل ذلك بخيرة أبنائه ومسخرا كافة موارده ومقدراته وقوت يومه للدفاع عن الأوطان، ودياب واحدا من الذين استلهموا ووظفوا التراث بحرفية وبراعة كما جاء في رائعته ” باب الفتوح “، وغيرها من أعماله الإبداعية مستخدما في ذلك الرمز كأداة للإسقاط على الحاضر، وهى حيلة فنية لجأ لها العديد من الكتاب بعد قيام ثورة يوليو1952، ومع نهضة المسرح المصري منذ أواخر الخمسينيات على أيدي الكوكبة التي انفتحت على المسرح العالمي المعاصر، حيث بدأ الوعي واضحًا في استخدام الرمز خاصة عندما كان بعضهم يحاول نقد النظام الحاكم بطريقة لا تؤدي إلى تبعات خطيرة تقع على كاهله، وقد زادت وتعددت استخدامات الرمز في إيحاءاتها ودلالاتها بعد 67 لرغبة الكتاب في نقد السلبيات التي أدت إلى وقوع الهزيمة، وللتعبير عنها بشكل غير مباشر، حتى وأن كانت الرقابة في بعض الأحيان طبقًا لتعليمات صادرة إليها تتساهل في السماح لبعض الإسقاطات والإيحاءات المباشرة، على سبيل التنفيس، حتى لا ينفجر الوضع، ونتذكر جميعا موقف السلطة من عرض فيلم شيء من الخوف، الذى خشى صناعه من مصادرته ووقف عرضه، إلا انه مر بسلام بعد محاولات من الشد والجذب انتهت بتفهم السلطة لطبيعة الأعمال الفنية وضرورة حرية الإبداع، وإن كانت الحقيقة أنها خشت من أن تتهم بالدكتاتورية ومعاداة حرية الراي والفن والإبداع، وهو ما كان متبع بالفعل مع بعض الاستثناءات القليلة، ومع ذلك أخذت الأعمال الإبداعية تبحث عن صيغ جديدة تتلائم مع التغيرات الحاصلة لتقوم بدورها كعضو فعّال في تغيير المجتمع، وتحمل مسؤولية ما يستجد فيه من متغيرات، وضرورة الاهتمام بالقضايا السياسية وعدم المبالاة بها بحجة الخوف والاكتفاء الذاتي بتأمين حاجات الحياة الضرورية، فالهزيمة لم تكن مصادفة، وإنما كانت نتيجة طبيعية لغياب الشفافية والاستئثار بالسلطة واستبعاد المشاركة الشعبية، لذا حاول العديد من المبدعين كشف الواقع العربي بما فيه من تناقضات سياسية واجتماعية، بغية الوقوف على الأصيل والمزيف في هذا الواقع بعد خلخلته وتفكيكه، ومع ذلك لم يكن الشغل الشاغل للكثير منهم الكشف عن أسباب الهزيمة بقدر ما كانوا يحاولون رسم طريق الخلاص، من خلال تقديم إبداعات تمثل الرفض التام والردة الانفعالية للهزيمة، وكيفية نفض الغبار عن كاهل الواقع، وذلك عن طريق تسخير كل القدرات المتاحة لتجاوز المرحلة المظلمة وبناء مستقبل جديد على أسس علمية جادة تعيد الهوية المفقودة وتفتح المجال للحريات والمشاركة الشعبية. 

دور المسرح في حفظ التراث

كثيرا ما نتحدث عن استخدام التراث والتاريخ كمادة في الأعمال الفنية والأدبية وذلك لكونهما شيئا أصيلا وحيا في الوجدان الإنساني، والأعمال الأدبية التي تتخذا منهما مادة للكتابة تكون لها مبرراتها في الغالب، فكتابة الرواية أو المسرحية التاريخية عمل فني يتخذ من التاريخ مادة تخدم رؤية وفكر المبدع، والتي يريد أن يتجاوز من خلالها الصدام المباشر مع الواقع، وهو هنا لا ينقل التاريخ كما هو بل يوظف هذه المادة توظيفا جيدا، للتعبير عن موقف ما في مجتمعه لا يستطيع التعبير عنه بشكل صريح. ولكن كتابة الرواية والمسرحية التاريخية محفوفة بالمخاطر والمزالق، فالشخصيات تكون لها وجود محدد أو بعبارة أخرى هي معدة سلفا وكذلك الأحداث التاريخية والمكان والزمان وغيرها، وعلى المبدع أن يصوغها صياغة جديدة لا أن ينقلها كما هي، بمعنى انه يقدمها من منظور مختلف مع الاحتفاظ بالعلامات التراثية التي تعلمها جيدا الذاكرة الشعبية، وهذا ما يجعل اتخاذ التاريخ مادة للنصوص الأدبية عملا مشروعا، فالمبدع لابد أن يحذف ويضيف، أي يعيد خلق هذه المادة وهذه الأحداث والشخصيات، ويصنع ما بينهما وبين البيئة المحيطة والآخرين جدلا يساعده على توصيل وتوضيح فكرته، وأيضا توضيح رؤيته في هذه الأحداث، وموقفه منها، فهو يضيء مناطق ويبعث فيها الحياة ويعطى مناطق أخرى أو شخصيات وأحداثا أخرى تقييمها الطبيعي والموضوعي، وهنا كان التراث والتاريخ يمثلان معنى وقيمه وليس مجرد أحداث مروية وشخصيات منعزلة عن الواقع فكانت كتابات تعتمد على الواقع وعلاقة الإنسان به، لهذا كان كانا دائمًا نبعًا لإلهام كُتَّاب مسرحيين كثيرين عبر تاريخ المسرح في شتى أنحاء العالم، بل إن الفضل يرجع إلى المسرح في حفظ هذا التراث من الضياع، ولذلك كانت العلاقة بين الدراما والتاريخ والتراث علاقة وثيقة، وأثبت تاريخ المسرح عبر العصور، أن الكُتَّاب الذين يتخذون من التاريخ والتراث مضامين لأعمالهم كانوا في الوقت نفسه يسقطون مفاهيم عصرهم وقيم مجتمعهم من خلال المعالجة الدرامية لهذه المضامين.

سمات الاستلهام في الإبداع الأدبي

هناك العديد من السمات التي تتصف بها الأعمال الأدبية التي تتخذ من التاريخ والتراث مادة للكتابة أهمها: الإسقاط.. وإن كنت لا أحب هذا المصطلح في تصنيف سمات المسرحية التاريخية إلا أنه الأقرب إلى توصيل الفكرة، فمن خلال هذا الإسقاط وهو إسقاط الحاضر على الماضي يستطيع المبدع أن يهرب من مأزق الرقابة، والدخول في محاذير السلطات المختلفة، فهو يستخدم الماضي كاداه لتوصيل رؤيته، وليس أي ماضي فهو يختار ماضيا وحدثا بعينه يخدم فكرته. فالمبدع المهموم بقضايا مجتمعه يبحث دائما خاصة في الأوقات التي تقل فيها مساحة الديمقراطية عن فترات تاريخية في تراثه أو تراث الآخرين، تظهر أفكاره ورؤيته، أو يبحث عن فترة ما يحملها ما يريد من أفكار، تكون بها سمات قريبه من هموم وقضايا مجتمعه، خاصة تلك التي ينبغي مواجهتها بالإصلاح أو التغير، وقد ظهر هذا الإسقاط التراثي والتاريخي على المسرح المصري المعاصر من خلال أعمال لكتاب مسرحيين مختلفين كتوفيق الحكيم في “السلطان الحائر” التي ظهرت في 1959، ورشاد رشدي في “أتفرج يا سلام” 1965، و”الزير سالم” لألفريد فرج، فقد استعان مؤلفو هذه الأعمال بالتاريخ والتراث بدرجات متفاوتة، بل أن التاريخ قد امتزج بالتراث في السلطان الحائر والزير سالم لدرجة كبيرة، وأخيرا نؤكد أن هذا الاستلهام دائما ما يكثر في فترات غياب الديمقراطية، وشدة الأجهزة الرقابية أو فترات الاحتلال أو الحروب، ولعل هذا يوضح حجم ووفرة ما كتب من الروايات التاريخية أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، وهى الفترة الذهبية لهذا النوع من الكتابة وذلك لكون المبدع يريد أن يبعث أمجاد وبطولات أمته من تراثها ويدفعها إلى مواجهة الظلم بكافة أشكاله ومقاومة الاحتلال والتصدي للفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالمبدع الملتزم يبحث دائما عن ما فيه إسعاد وطنه وحرية أمته وذلك من خلال ما منحه الله من موهبة وأدوات تستطيع أن تخلق تواصلا بينه وبين الجماهير.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.