اللوحة: الفنانة الكويتية سوزان بشناق
فواز خيّو

كنت في وضع خطير للغاية، حتى أني فقدّتُ ذاكرتي لمدة، حين ظهرت أمامي أمل مكارم، تلك المذيعة الباهرة من الشاشة.. كان ظهورها حدثا حقيقيا، وجه بديع تفنّن الله سبحانه في خلقه، كأنه أراد القول: أنظروا ماذا بإمكاني أن أصنع.
حضور دافئ، صوت يفوح كما العبير، تسمعه بروحك لا بأذنك. كل الناس أحبّوها، والكثير من الوحوش ضايقوها.. كانت حلم الكثيرين.
وكما قلت مرة: في كل الأشياء أنت تختار، لكن في الحب الطرف الآخر هو الذي يختارك، يرمي جمرة في أعماقك ويمضي. فتتبعه كالمضبوع إلى وكره فيفصفص عظامك. والتقينا.
حين تلتقي امرأة كهذه ليس مهمّا أن تقول لها أحبك. يكفي أن تجلس في ظلها، وتكون محتكرا لحظتها رؤية هذا الوجه البديع، وسماع هذا الصوت الذي ينساب كجدول ماء دافئ في أرجائك.
كانت كحبل من الضوء امتد إليّ، وسحبني من بين الأمواج.
كنت في غاية العدل حين وصفتها بأنها أجمل وجه عرفه السوريون مطلع التسعينيات. وكانت تسكن في جرمانا.
ثمة نساء تُرسلها الأقدار لتجدّد الطبيعة وتحفظ توازنها، ترتّب المناخ ودرجات الحرارة، وتنظّم دوران الأرض، وتخفف من أثر الحروب والدمار بالسلام الذي تنشره بحضورها وإطلالتها.
كنا نلتقي باستمرار إمّا في جرمانا أو أزورها في التلفزيون، وأحيانا تمرّ إلى الجريدة.. كان تواجدها في مكان يُحدث مظاهرة، وذات مظاهرة كنت معها.
انتشرت قصّتنا على كل لسان في جرمانا والوسط الإعلامي، امرأة تحمل طباع الفارس، هي مجموعة نساء في امرأة، وعند اللزوم هي أكثر من رجل.. هي المرأة الحدث.
استمرت لقاءاتنا حوالي أربع سنوات، وفي لحظة تحتّم الإفتراق لأكثر من سبب، فافترقنا.
كتبت لها ديوان (طائر في الفضاء الوعر)، صدر الديوان، سلمتها نسخة منه ومضيت. لا أدري إلى أين مضيت وقتها. وبعد فترة وجيزة التقيت بهيلانة وتزوجنا.. وهي تزوجت بعد فترة.
أمر مريع أن تُحبّ مذيعة وتفترقان، تفتح التلفزيون فتطلع في وجهك، ترتبك، تتداخل عضلات وجهك، تنساب دموعك رغم كل حرصك وحذرك، فتخرج من الغرفة كي لا تفضحك اللحظة، ولا تستطيع إلغاء التلفزيون لأنك بحاجة إليه.
ما أنقذني أنها بعد مدة تركت الشاشة وسكنت بعيدا مع زوجها في بانياس.. بعدها أعلنتُ اعتزالي القصيدة لأن لا امرأة بعدها تستحق ارتداء القصيدة.
ثلاثة وعشرون عاما لم أكتب قصيدة أو خاطرة، ولم ألق محاضرة أو أمسية.. وحين تقول لي زميلة مثلا: البارحة التقينا مع المدام أمل في عرس أو مناسبة؛ أسألها سؤالا واحدا وحيدا: هل تبدو مرتاحة؟ كان يعنيني أن تكون مرتاحة، مع أنها ماهرة في إخفاء مشاعرها وخباياها.
لم أرسل إليها حتى سلاما، كي لا أعكّر أو أخلخل حياتها.. ما أقسى أن تفترق عن أناس كبار لا تتسع لهم الذاكرة.. ثمة أناس لم يُخلقوا ليصبحوا ماضيا، فهم مًصمّمون ليكونوا الحاضر والمستقبل.
كتبتُ فوق صورة مبهرة لها وهي ترتدي الزي الشعبي والطربوش المُذهّب: لقد كنتِ حدثا كبيرا، وأرسلتني الأقدار كي أقوم بتوثيقك وتأريخك، كي لا تتعرّضي للتزوير ككل أحداثنا الكبرى.
فتّشت الحدائق بحثا عن زهرة تليق بك.. فتشت السماء بحثا عن قمر يليق بك.. فتّشتُ كل شيء بحثا عن شيء يليق بك.. لم أجد شيئا سوى المرآة.
مرة سألتني: ما جديدك؟
فكانت هذه القصيدة التي أثارت الضجة أينما نشرت، وفازت على صعيد العالم العربي من ضمن 800 قصيدة في مسابقة نادي الجياد في الأردن، والتقطها الشاعر المصري فاروق شوشة مع قصيدة ثانية لي من معجم البابطين للشعراء العرب، وخصص لهما حلقة في برنامجه في إذاعة القاهرة عام 2008.
أنت أعماليَ الكاملة
كذا فجأة تشرقين،
فينساب نهر من الارتعاشات بي،
فأسندُ قلبي إلى موعد سيجيئْ،
كذا فجأة تشرقين ْ
…
ليحفظْك من لهفتي،
أنت نهر يشقّ الحياة فتحيا الحياة على ضفتيه،
هنا ينبتُ الطيرُ،
والزهر يفردُ أجنحة من ندى،
يغرّد ملء البراعم،
تصطفق الأمنيات كأمواجك الذاهلهْ،
كما العشبُ أنمو على ضفتيك،
تبرعمُ فيّ القصائدُ، تخضرّ أقلامي الذابلهْ،
فلا تسألي ما جديدك سيدتي،
أنت أعماليَ الكاملهْ.
….
هنا غابة من نساء،
ولا امرأة تُلفتُ القلب حتى أتيت،
لأخفق كلي كأنيَ قلب بلا جسد،
عذبة كالبكاءْ
وشفّافة لا تُميّزها العين عن طيفها،
وتبسمُ همسا،
فمن طيفها يرشف القلب قهوته في الصباح،
ومن أجلها يتمشّى المساء صباحا قبالة شباكها،
كي يشمّ الهواء، فيغدو النشيدْ:
مساء يشمّ النساءْ
مساء يشمّ النساءْ
….
أنا أشعث الشعر والعمر والذكرياتْ
فهذبتِني بالعبيرْ،
ولملمتِني كسرة همسة ثمّ جمّعتِني في جسدْ،
وعلّمتِني كيف أغدو نسيما يهبّ على الشرفاتْ
أنا لم يعد بي دم يا حبيبةُ ’
كيف تدفّقت بي؟
كيف ينساب وجهك غيما
لينعش هذي الفصول الحليقة كيفْ؟
ولولاك روحي سحابة صيفْ.
وللحلم عادتهُ،
يولد الحلم أفقا فسيحا شفيفا،
ويصغرُ يصغرُ يغدو رغيفا،
وذي ناطحات من الحلْم تهوي،
ويكبو بنا القلبُ،
لا شيء ينهض إلا الجراح،
وتنزف سرّا،
وأحلم أن أقتني رخصة للبكاءْ.
….
تعالي فوجهك أفْق وثير لعينين مرهقتين،
وصدرك غمد أثير لوجهي،
وعيناك نبض الطبيعة حيث الينابيع والخضرة الدافئهْ،
أنا النرجسيّ أرى صورتي فيهما،
فكم أشتهي أن أقبّل وجهيَ بعد غيابْ،
وكم أشتهي أن أقبل وجهك بعد عتابْ.
منتصف عام 2014 كنت قد هربت من الإقامة الجبرية التي فرضتها عليّ جبهة النصرة في عدرا بعد أسبوعين من اعتقالي في عدرا، وكنت في الأيام الأخيرة في غرفة المحالين على الذبح، لكن الله أراد لي النجاة، هربتُ أنا وابنتي الصغيرة نور بعد أن اعتقل ما يسمى جيش الاسلام ابني سرجون الذي أرسلته يسألهم عن أمه.
وكتبت منشوري الأول (… يا وطن) الذي أثار ضجة كبيرة تناقلته الكثير من المواقع الإلكترونية والصفحات، وقلت في مقدمته: أنا المواطن السابق فلان، سأضع رأسي على فوّهة المرحاض وأفرغه من كل القيم التي حملتها إلخ… وبدأت أكتب شبه يومي عن زوجتي هيلانة وسرجون، وأرى تعليقات لأمل: أنا أصلّي من أجلك وأجل أسرتك يا فواز، أنت من أشرف الناس في البلد وما شابه ذلك. أيضا لم أرد على تعليقاتها ولم أحاول التحدث معها إلا بعد شهور، مخافة أن أعكّر شيئا في حياتها الزوجية.
كم تشعر بالأمان والقوة حين تجد أن هذه الانسانة البديعة تقف معك وتصلّي من أجلك. كل الناس في كل مكان وقفت وتعاطفت معي و لكن وجودها وموقفها كان له القوة الكبيرة، وحين خرجتْ هيلانة وسرجون من الخطف اتصلتْ وتحدثتْ معنا ودعتنا لنزورها ونقضي عندها اسبوعا على الشاطئ، والتقينا بعد أكثر من عقدين على الغياب، كان اللقاء ساحرا.
قبل سنوات حين سألتها أن أكتب عنها في سيرتي لأنها تمثل مرحلة كبيرة في تجربتي الِشعرية وفي حياتي، على أن أعرض عليها ما كتبته قبل تثبيته فقالت: إطلاقا، لي ثقة بكل ما تكتبه عني، وحين أعدّتُ طباعة أعمالي الشعرية تحت عنوان كتابها (طائر في الفضاء الوعر) وضعتُ صورتها على الغلاف الخارجي، وكتبت مقدمة طويلة لها، ونُشرتْ في صفحتي وصفحتها على الفيس وأثارت ضجة كبيرة ورائعة عند الناس.
الموروث الشعبي الخشبي يجعل البعض يتقبل وجود بيوت دعارة، ولكن تشرئبّ أذناه حين يسمع أن فلانا يحبّ فلانة أو العكس، مع أن الحب هو الذي يجب أن يسود.
نعم كسرتُ حاجزا كبيرا في المجتمع بتشريع الحب، الحب السامي العالي، الذي يعتبر المرأة الحبيبة الملهمة غيمة أو وطنا، وليست مجرد جسد وسيلة لإشباع الغريزة والتفريخ.
وما كنتُ أستطيع كسر هذا الجدار لولا أنّ الطرف الآخر ناولني المطرقة، فثمة أشياء ليست ملكك وحدك كي تستطيع التصرّف بها.
وهكذا فعلتُ مع مجد صاحبة (كم أنتِ أنتِ) بجزأيه.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو