حاورته الشاعرة حنان عبد القادر
اللوحة: الشاعر الفقير للفنان الألماني كارل شبيتزفيج
عيد صالح شاعر مصري بارز وأحد شعراء قصيدة النثر القلائل الذين لهم صوتهم الخاص في أسلوب كتابة هذه القصيدة، يمتاز بالتلقائية وبساطة التعبير وعمق الدلالات المؤسس على قاعدة فكرية متينة.. بدأ دراسته في الأزهر ثم درس الطب وعمل طبيباً. وبدأ مشواره الأدبي في كتابة القصة القصيرة قبل أن يتحول إلى الشعر ليصدر أكثر من عشرة دواوين حتى الآن.. وعن فترة دراسته في الأزهر يقول: كانت هذه المؤسسة العريقة في الخمسينيات منارة للعلم والأدب والفن، وأصبحت الآن مفرخة للتشدد بعد أن سيطر عليها فقهاء الصحراء.. وحول ابتعاده منذ بداياته الشعرية عن المحددات التقليدية في كتابة القصيدة يقول: منذ بداياتي كنت خارج الدوائر التقليدية، وكان ذلك تلقائياً، لا ادعاء ولا انتماء لجماعة. أما عن الاتجاهات الشعرية التي تركت أثرها في تجربته فيقول: في فترة من حياتي فتنت بالسريالية، وبأندريه بريتون، وفرناندو بيسوا وبابلو نيرودا وأوكتافيو باث وجاك بريفير ولويس أراجون، وغيرهم، ثم الثلاثي؛ السوريان أدونيس ومحمد الماغوط واللبناني أنسي الحاج.. ويضيف: مازلت مفتونا بجنوح السريالية وغموضها على أن تكون موظفة في النص لا عبئاً عليه كما نرى عند الكثيرين ممن تأثروا بها.
وحول تعريفه لقصيدة النثر يقول: لا تعريف محدد لقصيدة النثر، فهي كما قالت سوزان برنار«قصيدة النثر صيرورة دائمة وإذا عرفت انتهت». ويضيف: كم من قصائد عمودية لا تعدو أن تكون مجرد نظم وكم من قصائد نثر لا تعدو أن تكون مجرد ثرثرة، وحين يوجد ماء الشعر توجد القصيدة أياً كان شكلها؛ فهي بعيدة عن أن تسجن في قالب أو زنزانة.. وحول المشهد الشعري العربي الآن يقول: غالبية ما ينشر مجرد عزف على إيقاع الآخرين، سواء من المجددين في القرن العشرين أو أولئك الذين استهلكوا بحور الخليل واستهلكتهم التفاعيل والقوافي، الكثير مما ينشر بعيد عن ماء الشعر، بعيد عن جموحه وجنونه وعبقريته. ويضيف: هناك هجمة سلفية شعرية ورِدّة على كل المنجز الحداثي، فعمود الشعر الكلاسيكي أصبح شرطاً للفوز بالجوائز والنشر والحفاوة وصرة مال الأمير، وتصدّرَ النقاد الذين يوجهون القطعان للعشب والماء والدولار.. فإلى تفاصيل الحوار:
الأزهر في الخمسينيات والستينيات كان منارة للعلم والأدب والفن، وأصبح الآن مفرخة للتشدد بعد أن سيطر عليه فقهاء الصحراء.. #عيد_صالح
– أعلم أن بداياتك الدراسية كانت في التعليم دينية؟ كيف أثر ذلك في تكوينك الثقافي؟ وهل ثمة اختلاف بين التعليم الديني سابقا واليوم؟
كيف كانت البداية؟ وكيف بعد رحلة الألف ميل نتوقف لنستعيد ماضينا الذي ربما لم يكن جميلا، ربما كانت الكتابة صدفة، ربما ذات تجربة عاصفة أو رجفة اشتعال الروح في ألق فكرة، أو طيف خيال جامح، وربما كانت العشوائية التي صبغت حياتي وطوحت بي على أرصفة الغربة منذ الصغر في تعليمي الأزهري، حيث المشايخ والحرام والحلال والملائكة والشياطين والرسل والأنبياء والفقه والتفسير والنحو والبلاغة، وألفية ابن مالك التي كنا نحفظها إجباريا، كيف يستوعب الصبي الصغير والفتى القروي الغرير كل ذلك ويهضمه.. في منتصف الخمسينات علي يد معلمين وأساتذة أزهريين تنويريين عظام، كان أستاذي الشيخ حامد مرجان يشجعنا على القراءة بجملته الشهيرة؛ أيما تقرأ تستفد، حتى لو كان في الجنس والخرافات، بل كيف تعرف الغث من الثمين وتفرق بينهما مالم تقرأهما؟ ومن هنا كنا نقرأ كل شيء، وخصوصا الروايات المترجمة في سلسلة روايات عالمية، وروكامبول وأرسين لوبين لموريس لبلان وأجاثا كريستي، ومجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، ومجلات الرواية والقصة القديمة والتي كانت تصدر في الأربعينات.. كانت مكتبة معهد دمياط الديني ثاني أكبر مكتبة في مصر بعد دار الكتب المصرية، وكانت قاعاتها المهيبة تحفز على القراءة، تفتحت عيناي منذ البداية على المنفلوطي ورواياته المترجمة ماجدولين والشاعر وفي سبيل التاج ونثرياته الرائعة قرأنا وحي القلم للرافعي، وألف ليلة وليلة وديوان الحماسة لأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء، والمنتخب في أدب العرب، كل ذلك بجانب كتب الدراسة، شذور الذهب والمنتخب في أدب العرب وتفسير النسفي وشرح الأجرومية الجديد، زاد وعتاد للتأسيس الذي دأبت عليه الدراسة في الأزهر الوسطي أيام الشيخ شلتوت شيخ الاستنارة والتجديد العظيم، والذي سلمت عليه وأنا أتسلم جائزة أدبية حيث كانت المسابقات في القصة والمقال والدراسات في المعاهد الدينية على مستوي الجمهورية، وكنا نسافر للقاهرة ونتسلم الجوائز أعوام ١٩٦٣ و١٩٦٤ و ١٩٦٥، وأذكر انني في عام ١٩٦٥ قدمت دراسة في نادي أدب الرواد بدار الثقافة الشعبية، وكان جمهوري زملائي بالمعهد الديني الذين حضروا لتشجيعي لما أخبرتهم بالموعد، كل ذلك بجانب القرآن الكريم حفظا وتفسيرا نستحضره ليس في الشريعة وأصول الدين، ولكن في النحو الصرف والبلاغة والمنطق.
الأزهر في الخمسينات والستينات كان منارة للعلم والأدب والفن، كنت عضوا بفريق التمثيل عام ١٩٦٠ بمعهد دمياط الديني، ولازلت أذكر اسمي في مسرحية من فصل واحد، ولما مشيت في الشارع أشار لي صبي ناداني باسمي في المسرحية.. الآن لا فن ولا أدب ولا أصول الكتب التي كنا ندرسها في البلاغة، وكتاب أوضح المسالك في شرح ألفية ابن مالك بأجزائه كلها، الأن قشور القشور، واختصرت سنوات التعليم ناهيك عن أنه أصبح مفرخة للتشدد بعد أن سيطر عليه فقهاء الصحراء بتمويل مشايخ النفط للمعاهد والكليات الأزهرية.
السرد كان ولا يزال هو مكوني الأدبي.. ومشروعي الشعري نفسه قائم على السرد والمشهدية والكادر والمنولوج.. #عيد_صالح
– قرأت أن بداياتك كانت في فن القصة، كيف كان ذلك، وإلام انتهت؟ وأين نتاجك القصصي؟
نعم كانت بداياتي قصصية، حتى أشعاري التي كنت اكتبها كأزهري، كان يدرس الخليل ابن أحمد كمادة أساسية في سنه أولى ثانوي، ولذلك كانت قصصا موزونة وبمقدمات نثرية، السرد كان ولا يزال هو مكوني الأدبي ومشروعي الشعري نفسه قائم على السرد والمشهدية والكادر والمنولوج.
أول قصة كتبتها وعرضت بجماعة رواد الأدبية كان اسمها الصياد، وهي عن صياد من قريتنا الواقعة على بحيرة المنزلة والتي كنا نصطاد فيها في إجازات الدراسة، ولما قرأها الأستاذ مصطفى الأسمر قرأها موزونة رغم انها تلتزم عمود الحكي الكلاسيكي من بداية ووسط ونهاية، وما كان يطلق عليه لحظة التنوير كانت الحدود والتعريفات صارمة، ولم تكن الأنواع الأدبية قد تداخلت حد الإلغاء، والكتابات المنطلقة والمسرواية لتوفيق الحكيم، ورواية اللارواية لألان روب جريه، الى آخر الانفجارات السردشعرية والشعرسردية.
مع ايماني المطلق بأن عمود السرد هو الحكاية بمعني الحدوتة، ومع ايماني بحق التجريب الذي مارسته في ١٢ قصة قصيرة جدا عرضتها في مؤتمر للسرد في دمياط عام ١٩٨٦، واختلفوا منهم من قال فتحا كأنيس البياع ومنهم من قال قصائد قصيرة كسيد النماس ومنهم من قال هياكل عظمية تحتاج تغطيتها باللحم كإبراهيم قنديل، ولم أكن من الشجاعة للإصرار على النوع الذي صار ت تعطى له جوائز الدولة التشجيعية، لم أنشر غير ثلاث قصص قصيرة بكتب غير دورية بقصر ثقافة دمياط، وعندي مجموعة قصصية اسمها المرسيدس البيضاء ورواية اسمها غريب كتبتها عام ١٩٦٧ قبل النكسة، وللأسف ضاع احد أجزائها وأنا أنتقل من القاهرة لدمياط عام ١٩٧٧.
التلقائية وعمق الدلالات مع بساطة التعبير والعمق الفكري.. هي طموحات أي كاتب منذ لحظة النص الذي يتلبسه في حالة من الاستغراق.. إنها لحظة المخاض الحقيقي لنص قد يكون طفلا فاتنا، وقد يكون مسخا مشوها.. #عيد_صالح
– من يقرأ قصائدك يغمره إحساس بالتلقائية التي تكتب بها وفي نفس الوقت بالدلالات العميقة مع بساطة التعبير، كل ذلك مترافق مع العمق الفكري الذي يلتقطه القارئ المهتم.. كيف استطعت انجاز هذه الخلطة إن صح التعبير؟
أتمنى أن يكون لما أكتبه هذا الأثر الذي تتحدثين عنه كقارئة، ومصطلاة بنار الإبداع، فالتلقائية وعمق الدلالات مع بساطة التعبير والعمق الفكري كلها طموحات أي كاتب من نصه الذي يتلبسه في حالة من الاستغراق الذي يفصله عن العالم، إنها لحظة المخاض الحقيقي لنص قد يكون طفلا فاتنا، وقد يكون مسخا مشوها، قد تتأتي الخلطة بالحنكة والدربة وما يسمى مونتاج النص بعد ولادته بأمنيوسه، وغسله وتعطيره بالسعوط والحناء، دعيني أعترف بأننا في حالة الكتابة كصياد يلقي بشباكه التي قد تصطاد أسماكا وفيرة وكبيرة وقد تخرج خاوية الوفاض، وقد تصطاد جنية البحر، ومن ثم قد نختار الكتابة التي قد تتأبى وتتدلل وتراوغ، وقد تختارنا الكتابة كحسناء تشير أريد هذا الفتى الجميل المحظوظ، لكنها الكتابة تظل ذلك الساحر الغامض الذي يشير إليك من بعيد وتلك الحالة التي يكون فيه المبدع في حالة ما يسمي بعذاب المتعة ومتعة العذاب.
– إلى أي درجة تسلل الطبيب إلى نصوصك؟ فالمرض والأسبرين والسرطان والإنعاش والمفردات الطبية حاضرة في كثير من قصائدك.
وكيف لا يتسلل الطبيب إلي نصوصه وهو كاتبها ومصطليها؟ بل كيف نحدد إقامته ومساحته التي لا تفسد النص بالافتعال والحشر؟.. حقيقة حضور عالم الطب بمفرداته في نصوصي لا أشعر به لحظة الكتابة، بل لم أكن أفطن لذلك الا بعد قراءتي للنص بعد كتابته، وكنت أصر عليه لأنه أصبح جزءا عضويا من النص، حتى أصبح ملمحا ربما لأنني أكتب ذاتي وعالمي الذي كثيرا ما تسبب في إجهاض عشرات النصوص في حجرات العمليات وبين عنابر المستشفيات والأسرة البيضاء، ولم أجد الوقت ولا اللحظة المناسبة لكتابتها، ومع ذلك فلازلت أتمنى أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر، أكتب الطبيب الذي ينتزع المريض من براثن الموت ويضحك ويصفق لانتصاره بنجاح العملية، أو ينتحي جانبا ويبكي لأنه أخفق، الطبيب الذي يتبرع بالدم في غمرة انفعاله لإنقاذ المريض والذي يدفع ما في جيبه لشراء دواء قد تكون فيه حياة المريض.
حالات إنسانية كثرة لا حصر لها، ومواقف يذوب فيها الفرد في الجماعة والرئيس والمرؤوس، وحديث الأيدي والنظرات، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ثمة مايسترو يضبط الإيقاع والعازفون المهرة يذوبون ويتوحدون في نغم واحد؛ نغم الانتصار للحياة وللإنسان في أضعف حالاته وأصدقها، الكل معلق قلبه بالدعاء الله يا ألله يا ألله.
– أنت شاعر نثر بامتياز، ما الذي دفعك للذهاب بعيدا عن المحددات التقليدية للشعر من وزن وتفعيلة وخيرها؟
لم يدفعني شيء لأنني منذ بدايتي كنت أكتب النثر موقعا، وكل قصائدي الأولى كانت سردا موقعا، أذكر أنني كتبت رسالة لصديقي وابن قريتي ابراهيم عيسى عام ١٩٦٣ لازلت أحفظ منها: «ومشيت تقطع في الطريق، وبلا رفيق أوصديق، ومشيت تنهشك الظنون، حتى وشكت على الجنون، وبراحة اليد اليمين، ألهبت رأسك والجبين، كي تنتصر.. لا أن تجن وتحتضر، سرعان ما يأتيك صوت من بعيد، قد كنت نصفا نافعا والنصف عيد، برهام لا تيأس وحاول من جديد، ووصلت يا صاح فقالت: أين عيد..؟
مازلت مفتونا بالسوريالية بجنوحها وغموضها على أن يكون ذلك موظفاً في النص لا عبئا عليه كما نرى عند كثير من الشعراء الذين أصبحوا يكتبون الصور الشعرية لذاتها، كما لو أن الشعر مجرد صور تتداعى وتتلاحق دون بقية عناصر القصيدة الحديثة من دلالة ورمز ومعنى وتشكيل وسرد ودراما.. #عيد_صالح
– أي الاتجاهات الشعرية كانت الأقرب إليك وتأثرت بها؟.. بمعنى ما التجارب الشعرية التي أحببتها وفتنت بها وكيف أثرت بتجربتك؟
في فترة من حياتي وقعت أسيرا لترجمات أشعار بابلو نيرودا وجاك بريفر ولويس أراجون وبوريس باسترناك عام ١٩٧٠ بجانب الشعراء السورياليين؛ وفي ذلك الوقت فتنت بالسوريالية، وكنت أحفظ البيان الذي صاغه أندريه بريتون وتوجت ذلك بفتنتي ببيسوا بعد أن ترجم على يد الشاعر المغربي المهدي أخريف في بداية التسعينات، وحصول أوكتافيو باث على نوبل وترجم إلى العربية وكان آخر السورياليين العظام.
كل ذلك قبل أن يفتح عيني صديقي الشاعر محمد فهمي سند على الثلاثي السوري أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج لتكتمل الدائرة الأجنبية والعربية.. ولا أنكر أنني مازلت مفتونا بالسوريالية بجنوحها وحتى غموضها، على أن تكون موظفة في النصوص لا عبئا عليها كما نرى عند كثير من الشعراء العرب المفتونين بالسوريالية، ومع ذلك لن تجدي أثر السوريالية فيما أكتب لغلبة السرد على أعمالي، اذ كانت بداياتي قصصية وسيطرت المشهدية والتشكيل والصورة الكلية في نصوصي بدلا من الصور الشعرية المحلقة والمجردة.
بعض الشعراء العرب المتأثرين بالسريالية أصبحوا يكتبون الصور الشعرية لذاتها، وكما لو أن الشعر عندهم مجرد صور تتداعي وتتلاحق دون بقية عناصر القصيدة الحديثة؛ من دلالة ورمز ومعنى وتشكيل وسرد ودراما، تماما كهؤلاء الذي يقفون بقصائدهم عند الغنائية كمقصد وغاية.. تتجلي براعة الشاعر في امتلاكه لناصية القصيدة.. في ثراء خياله وجدة صوره، وتمكنه من أدوات الكتابة الشعرية.
ومع كل هذا التأثر كنت أنشر التفعيلي وأحجب النثري، كما كنت أنشر الشعر وأحجب القصص، وللأسف كان ما يحجب في أغلب الأحوال هو الأحسن، وكذلك النصوص التي كنت أمزقها لمجرد أنها لم تجد صدى لدي أصدقائي كانت هي الأفضل، وقد تأكد لي مرة من سنوات قليلة حين سألني صديقي الكاتب المتصوف صلاح مصباح عن قصيدة لي أعجبته جدا في احتفالية لحزب التجمع بالاوريجنال بدمياط عام ١٩٨٥، قلت له للأسف مزقتها وألقيت بها في النيل لأنها لم تجد صدى جماهيريا متناسيا، فالمناخ العام لم يكن مناخ الشعر، كل ما أذكره أنني كنت خارج الدوائر التقليدية منذ البداية وكان ذلك تلقائيا لا ادعاء أو انتماء لجماعة، ولعل ذلك مع ظروف كثيرة إقليمية ومهنية أبعدتني عن الأجيال التي كانت تروج لنفسها، كما أنني وصديقي محمد فهمي سند كنا ممن حوصروا بين الستينيين والسبعينيين.. وتلك قصة أخرى.
كم من قصائد عمودية لا تعدو أن تكون مجرد نظم، وكم من قصائد نثر لا تعدو أن تكون مجرد ثرثرة، وحين يوجد ماء الشعر توجد القصيدة أيا كان شكلها.. #عيد_صالح
– هل كل ما يكتب من نثر شعري يسمي قصيدة نثر؟ ما شروط قصيدة النثر برأيك ومتي يمكن تسمية نص أنه قصيدة نثر؟
للأسف ليست عندي إجابة جاهزة ولا تعريف محدد لقصيدة النثر، حتى سوزان برنار التي وضعت شروطا عاما كالمجانية والكثافة والتخييل والمجاز، عادت وقالت بأن قصيدة النثر في صيرورة دائمة وإذا عرفت انتهت، ومع كل ما قرأت وعلى مستوي العالم شرقه وغربه قديمه وحديثه لازلت في حيرة من التعريف، هناك نصوص مبهرة لكنها تقف على الأعراف بين السرد والشعر، وهناك خط فاصل دقيق جدا يحيل النص لقصة أو قصيدة، ولا ننسي تداخل النصوص وتلاقحها ما يهمني النص لا التسمية، فكم من قصائد عمودية لا تعدو مجرد نظم، وكم من قصائد النثر لا تعدو مجرد ثرثرة، وحين يوجد ماء الشعر توجد القصيدة أيا كان شكلها؛ لم أعد انتصر الا لماء الشعر.
غالبية الشعر الذي ينشر الآن مجرد عزف على إيقاع الآخرين، سواء من المجددين في القرن العشرين أو أولئك الذين استهلكوا بحور الخليل واستهلكتهم التفاعيل والقوافي، الكثير مما ينشر بعيد عن ماء الشعر، بعيد عن التجربة الحية، بعيد عن جموح الشعر وجنونه وعبقريته.. #عيد_صالح
– من المؤكد أنك تتابع ما ينشر من تجارب شعرية في مختلف وسائط النشر، كيف ترى المشهد الشعري الآن من خلال متابعاتك؟
الحقيقة أنك تجدين مجرد عزف على إيقاع الآخرين، سواء من المجددين في القرن العشرين أو أولئك الذين استهلكوا بحور الخليل واستهلكتهم التفاعيل والزحافات والعلل والقوافي، الكثير مما ينشر بعيد عن ماء الشعر، بعيد عن التجربة الحية، بعيد عن التجديد والتحليق لفضاءات بكر، بعيد عن جموح الشعر وجنونه وعبقريته.
دائما ما أردد أن الشعر كثير وأن القصيدة أرحب من أن تسجن في شكل أو قالب أو زنزانة مهما كانت موشاة ومزدانة بقشيب الألوان والزخارف، علينا أن نغامر ونجدد ونحلق ونخرج من جلباب الأب الذي استهلكته كتائب الشعراء، وكما يقال ألف شاعر يكتبون قصيدة واحدة بنفس الصور والإيقاعات والقوافي التي يستبق المستمع المنشد بنطقها، فلا دهشة ولا إبهار، ولكن تطريب يذوب عند توقف الإيقاع، وحيث تختفي المعاني والرموز والدلالات تحت سنابك الإيقاع وصخب التفاعيل والبحور.
هناك هجمة سلفية شعرية وردة على كل المنجز الحداثي، وعلى كل ما حققه جيل الخمسينات والستينات من قفزة في تجديد القصيدة العربية. فعمود الشعر الكلاسيكي أصبح شرطاً للفوز الجوائز والنشر والحفاوة وصرة مال الأمير، وتَصدَّر النقاد الذين يوجهون القطعان للعشب والماء والدولار.. #عيد_صالح
– من يتابع الشعر العربي اليوم يلاحظ النسبة الطاغية للقصيدة الكلاسيكية، وكأن هناك عودة للشعر العمودي، فهل فشلت حركة الحداثة بعد أكثر من نصف قرن من انطلاقها؟
الحداثة لم تفشل ومازالت التجارب الشعرية الجادة تبني عليها بشكل أو بآخر، لكن هناك هجمة سلفية شعرية، وردة علي كل المنجز الحداثي، وكأن ما حققه جيل الخمسينات والستينات من قفزة في تجديد القصيدة العربية بداية من نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور مرورا بالسياب ونزار وأدونيس والماغوط وأنسي الحاج وحتى شعراء السبعينيات، وأصبح عمود الشعر الكلاسيكي هو شرط الفوز الجوائز والنشر والحفاوة وصرة مال الأمير وتسابق الشعراء في عكاظات العروض والقوافي مع قشيب الزخارف المجازية والبلاغية وتصدر نقاد يعمدون الإيقاع ويوجهون القطعان للعشب والماء والدولار والدينار.. لكنه الشعر يبقي ويتجدد بتجدد الحياة، وسيظل هنالك من تصطليه القصيدة المغايرة الجديدة في الثوب والمحتوى، في عوالمها وتحليقاتها وتجلياتها واختراقاتها.
– هل مازال ينظر للشاعر على أنه صاحب نبوءة شعرية.. وما الذي يميز الشاعر عن غيره؟
لا نقول بنبوة المبدع وإن كانت لم تسقط، ولكن نقول بإنسانيته وصدقه وبساطته، برقته وعنفوانه وبراكينه وشواطئه وزوارقه ومناطيده وطوربيداته.. لا نقول بالوصاية وتحديد الإقامة وتقليم الأظافر، ولكن بخيال ومجاز وفضاء وتجاوز وحضور وبعث ونشور..

حنان عبد القادر شاعرة وفنانة تشكيلية مصرية، صدر لها: «لا تدعني أرتحل» شعر 1999، «دندنة» شعر بالعامية المصرية 2000، «عدنـان.. عُدْ» شعر 2001، «حدث ذات حلم» قصص 2009، «أفئدة اليمام» شعر 2014، «رفيف» شعر 2015. وفي أدب الأطفال: «صغير يعيد تشكيل وجه الحلم» شعر 2008، «حكايا حنُّونة – البطة الملكية» قصص 2019، «هيا نلون الكلمات» مسرحية شعرية صدرت عن المركز القومي للطفل 2023.
عيد صالح شاعر مصري وطبيب ولد في عام ١٩٤٣. بدأ دراسته في الأزهر ثم درس الطب. بدأ رحلته الأدبية في كتابة القصة.. أصدر عددا من الدواوين الشعرية منها: «قلبي وأشواق الحصار» 1990، «شتاء الأسئلة» 1965، «سعفة من زمن جريح» 1997، «أنشودة الزان»، 2002، «خريف المرايا» 2008، «رحيق الهباء» 2010، «سرطان أليف» 2011، «ماذا فعلت بنا يا مارك» 2015، «ربما في صباح آخر» 2018.
