اللوحة: الفنانة السورية فيفيان الصايغ
نهلاء توفيق

هل تعلمون؟ أنا أبيع الجرائد مذ كان عمري اثنتي عشرة سنة.. كنت أجلب لهم الخبز والتمر واللبن كل يوم. ولكن عندما تزوجت أضفت لذلك من الفواكه الكثير التي كانت عشق زوجتي، ومن اللحم القليل كي يكبر أولادي حسب زعمها.
وهل تعلمون؟ لقد كبروا فعلاً وكانوا مناضليْنِ اثنين وبنتاً محاميةً زوجة مناضل حديديّ.
بارك الله في دكاني الصغير الذي أنتجهم وأنتج اللحم الذي غذى فكرهم الوطني، وهل تعلمون أن جاري بائع الشاورما كان كل يوم يطلب مني بضعاً من الجرائد يلف بها سندويشاته! ولكني كنت آبى أن أعطيه من التي تصفحها الناس لئلا تكون قد تجرثمت فأناوله الجديد منها والنظيف.. مرة قال لي: يا أبا صادق، يقولون إنها مسرطنة، فما رأيك؟ قلت له ورب العزة ما مكتوب كله في الوطن، ولن يسرطنهم الوطن عزيزي.
بعد سنين تطور أبو محمد وصار يشتري أوراقاً بيضاء لا كلمات فيها، بصراحة لم أحزن لهذا أبداً، ولكن ما أحزنني أنه صار لا يتكلم معي بحجة المشاغل وزحمة العمل. حتى أنت يا أبا محمد! كم أكل زبائنك بلفات جرائدي؟ هل تعلمون أن أولادي لا يرونني إلا حين المظاهرة. لا ألومهم مطلقاً، فالوطن غالٍ ويأخذ كل وقتهم.
بقيت وحيداً أراقب المتظاهرين المارين والذين في بعض الأحيان يسرقون من جرائدي التي تسكن الرصيف.. هم ربما يعتبرونها مساهمة قسرية مني للتبرع بأفكار للوطن، هل تعلمون أني بعد كل هذه السنين من ملازمتي لها لم أقرأ منها شيئاً، ولا كلمة! ولكني أحفظ العناوين جيداً «الوطن، الرأي، الدستور، الجمهورية، الشعب» كلها أحفظ أسماءها، وهل تعلمون أنه كلما مرّ بي المتظاهرين تأتيني هستيريا الضحك، ولا أعرف السبب؟ ومرةً صفعني أحدهم وهرب، وما ازددتُ إلا ضحكاً.
كانوا يمرون مع المتظاهرين ولكني أراهم يختبئون بعيداً عندما يرونني واقفاً أضحك. أعني أولادي، ربما هم يستنكفون من عجوزٍ لا يهتف معهم! لستُ سكيراً ولا عربيداً، أبداً، ولكنها حمى الوطنية كلما تلزمني لا تبرحني إلا حينما أغوص في الضحك.. لا أحد يفهمني.
حينا غفوتُ في دكاني على كومةٍ من الجرائد وتيبس جسدي؛ قال لهم أبو محمد: إنه ميت! حملوني على تابوتٍ ملفوف بالعلم في مظاهرة كبيرةٍ من المناضلين، وأولادي يهتفون للوطن وحبه.. أظنني سمعت صوت ابن الرئيس! لا لا، أنا واهم، وربما تختلط الأصوات لدى مسامع الأموات.. وابنتي تبكي وسط نساء المناضلين في صالة العزاء ولا تفتأ تخبرهم بوطنيتي ودأبي في السعي لإنجاح الثورة فأنا أبو المناضلين.. هل تعلمون أن هتافاتهم كانت تضيق عليّ عظامي وتشد عليّ التابوت، ولكني مازلتُ أضحك وأضحك.
سمع ولديّ ضحكاتي، فخافا أن تصل لهم؛ صارا يزيدان من هتافهما، وبأعلى صوت، أكاد أقسم أن هتافهم وصل مسامع الرئيس، ولكن لا أدري لماذا لم يقمعهم، ربما هو يضحك مثلي وربما تصيبه ذات الهستيريا.. قال الكبير للصغير في أذنه: بسرعة لندفنه، بسرعة، قبل أن يفضحنا!
أهالوا عليّ التراب وأنا أضحك، وإلى اليوم مازلت أضحك.